منذ الحادي عشر من فبراير 2011 وانتقال السلطة إلى المجلس العسكري بعد الإطاحة بمبارك، ذلك الانتقال الذي تم بتفويض من المخلوع نفسه، والذي استهدف حماية النظام السياسي الحاكم التي كانت أركانه قد بدأت تتزعزع أمام طوفان الغضب الشعبي من الانهيار حتى وان استدعى الأمر التضحية برأسه وبعض من معاونيه وتفكيك بعض مؤسساته الحاكمة، بدأت آليات صنع السلطة العسكرية. لقد كانت تطورات الحالة الثورية التي شهدتها البلاد بدءا من الخامس والعشرين من يناير تنذر بخطر شديد على الطبقة الرأسمالية المسيطرة اقتصاديا ونظامها السياسي الحاكم لاسيما بعد انضمام قطاعات من الطبقة العمالية في حركات احتجاجية داخل فعاليات الثورة بدءا من الأسبوع الأول من فبراير. كان على المجلس العسكري أن يفض هذه الموجة من الغضب الهادر وأن يفرغ الحركة الجماهيرية من زخمها وكانت التضحية بمبارك هي أرخص ثمن يمكن أن يقدمه لتحقيق هذا الهدف. كانت هناك ضرورات ملحة أمام المجلس العسكري لصنع أدوات للسلطة الجديدة تسمح له بإجهاض الثورة الوليدة وتأكيد سيطرة نفس الطبقة الحاكمة التي يعبر هذا المجلس عن مصالحها وامتيازاتها. كان الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس العسكري في نهاية مارس والذي منح لنفسه من خلاله صلاحيات رئيس الجمهورية والسلطة التشريعية مجتمعتين يشكل واحدة من الخطوات الأولى لبناء أدوات السلطة السياسة الجديدة، وجاءت سياسة إحالة المدنيين بكثافة للمحاكمات العسكرية لتضيف جانب كبير من صلاحيات السلطة القضائية إلى نفس المجلس، ليصبح المشهد العام للسلطة أكثر استبداد ودكتاتورية من نظام مبارك نفسه. وكانت سلسلة التشريعات والإجراءات السياسية التي مارستها السلطة العسكرية خلال الأشهر الماضية تأكيدا لمحاولات خلق هذه السلطة الاستبدادية، فتصدت الشرطة العسكرية للاعتصامات والاحتجاجات العمالية والطلابية والمظاهرات الشعبية وعملت على مقاومتها وفضها بالقوة في العديد من المرات والتي وصلت في بعض الأحيان إلى درجة المجزرة كما حدث في اعتصام ماسبيرو، وتم إصدار تشريع فاشي يجرم حق الإضراب وينص على عقوبات غير مسبوقة تصل إلى الحبس والغرامة المالية الباهظة، وإصدار قانون لا ديمقراطي للأحزاب يخنق الفرص أمام العمال والفلاحين والجماهير الشعبية الفقيرة في تشكيل أحزابها، ثم قانون الانتخابات الذي يمهد الطريق لصنع برلمان معاد للثورة ويعبر عن مصالح نفس الطبقة التي خرجت الجماهير ثائرة ضد نظامها السياسي الذي مارس ضدها استبدادا وإفقارا وقهرا اجتماعيا عبر عقود طويلة. وبالتوازي مع هذه الإجراءات والتشريعات كانت هناك العديد من المحاولات للسيطرة على أجهزة الإعلام الرسمي ونشر العديد من القيادات العسكرية في المواقع القيادية لمؤسسات اقتصادية هامة في الجهاز الادارى للدولة ولأجهزة الإدارة المحلية. ولا يكتفي المجلس العسكري بهذه الإجراءات بل يفاجئنا بمشروع وثيقة المبادئ الدستورية والمعروفة باسم “وثيقة السلمي” والتي تسعى، وبشكل لا يقبل الشك، إلى تكريس هيمنة العسكر على السلطة السياسية بدعوى حماية الشرعية والى تنصيب المجلس العسكري كمؤسسة فوق كل مؤسسات الدولة لها كل الصلاحيات فيما يتعلق بالميزانيات والتشريع وغير خاضعة لأي رقابة شعبية أو برلمانية أو أي شكل آخر من أشكال الرقابة المجتمعية. جاءت هذه الوثيقة لتفضح مشروع تسليم السلطة المزعوم الذي يتبناه المجلس العسكري، والذي يكرس في جوهره دعائم الحكم العسكري على المستوى السياسي والاقتصادي والتشريعي، حتى وان استدعى الأمر الاستعانة بوجوه مدنية في صدارة المشهد. لقد حاول المجلس العسكري أن يفرض، خلال التسع شهور الماضية، سيطرته الكاملة على المقدرات الاقتصادية والسياسية للبلاد، هذه السيطرة التي تصب في صالح الرأسماليين ورجال الأعمال وفى مواجهة مصالح الجماهير الشعبية الفقيرة من العمال والفلاحين وصغار الموظفين والعاطلين. حاول المجلس –ومازال يحاول- أن يبنى دعائم سلطته الجديدة على مستوى البني السياسية والتشريعية والأمنية والإعلامية والاقتصادية، ولكن هل نجح في هذه المهمة، وهل استطاع أن يكرس أركان حكمه في ظل حالة الصراع السياسي والاجتماعي المحتدم على الأرض. لقد أصدر المجلس تشريعا فاشيا ضد الإضراب ومازالت موجات الإضرابات تعم البلاد بل وتتصاعد يوما بعد يوم، وواجهت الشرطة العسكرية بالقوة المتظاهرين والمعتصمين ولكن ذلك لم يمنع من استمرار المظاهرات والاعتصامات وكافة أشكال الاحتجاج الجماهيري، لقد اختارت الجماهير النضال والاحتجاج في الشارع كمسار وحيد للحصول على حقوقها الاجتماعية والسياسية المسلوبة، الجماهير في دمياط تناضل بجسارة ضد استثمارات مصانع السموم التي تقتل أبنائها، وجماهير العمال في طنطا وشبين الكوم تناضل من أجل استعادة شركاتها المنهوبة في عمليات فساد الخصخصة، والطلاب في الجامعات يناضلون من أجل لائحة طلابية ديمقراطية، والمظاهرات شبه اليومية في القاهرة وغيرها من المدن ضد تحويل المدنيين للمحاكم العسكرية وضد تعذيب المواطنين وقتلهم في السجون مازالت مستمرة. من كل هذه المشاهدات نستطيع أن نلمس حالة شديدة من المقاومة لعملية صنع أدوات السلطة العسكرية الجديدة، وأن هذه المقاومة تنشأ في إطار الحركة الجماهيرية وبعيدا عن المؤسسات السياسية التقليدية وترتبط ارتباطا وثيقا بالصراع الاجتماعي بين مصالح طبقة رأسمالية مارست نهبا لثروات هذا الوطن وإفقارا مطردا لشعبه الذي يعيش أكثر من 40% من سكانه تحت خط الفقر، وبين هذه الجماهير المنهوبة والمضطهدة. والمشهد العام للواقع السياسي المصري الراهن يعبر بوضوح عن هذه الحالة من الصراع بين سلطة تسعى لخلق أدواتها وبين جماهير غاضبة وثائرة تقاوم هذا المسعى وتستطيع في أحيان ليست قليلة أن تفرض إرادتها على آلية صنع القرار، ولكن هذا الصراع لا يمكن التنبؤ بنتيجته دون أن نتفهم قدرة كلا من الطرفين على تطوير أدواته ومؤسساته على الأرض. لا يمكن رصد عناصر القوة بين طرفي أي صراع دون دراسة أدوات كل طرف في إدارة هذا الصراع، والمعضلة الرئيسية في الصراع الاجتماعي المصري الراهن هي غياب أدوات الطرف الأهم فيه، وهو الحركة الجماهيرية، وعجزها عن طرح أدوات سلطة بديلة. المجلس العسكري والقوى السياسية التي تتبنى مصالح الرأسمالية تدفع باتجاه مشروع بناء السلطة التي تحمى مصالح وامتيازات هذه الطبقة، ورغم حجم التناقضات بين هذه القوى السياسية إلا أنها في مجملها تعجز عن تقديم نموذج ديمقراطي جذري للحكم يسمح للجماهير الشعبية بالتواجد في دائرة صنع القرار وبقيادة المجتمع نحو مشروع تنموي يحقق توزيعا عادلا للثروة. تبقى هذه التناقضات محصورة في دائرة حجم النفوذ السياسي المرتقب لكل طرف وتستخدم هذه القوى بعضا من شعارات الثورة بحثا عن تأييد جماهيري عبر صناديق الاقتراع. وهنا يجد الثوريون أنفسهم أمام الخيار الواضح بين الانخراط في هذا المشروع واتخاذ موقف ذيلي يسير على خطى القوى السياسية الانتهازية أو الدعوة إلى مشروع مختلف للسلطة البديلة، سلطة الشعب. يقول المنخرطون في هذا المشروع أن الجماهير الشعبية لم تتجاوز بعد الوعي البرلماني وأن علينا أن نتواجد معها في معاركها على الأرض، والواقع أن هذا الطرح يتجاهل واقع الاحتجاج الجماهيري الراهن. مئات الآلاف من العمال دخلوا في إضرابات خلال الأشهر القليلة الماضية من أجل مطالبات بأجر عادل وبتطهير المؤسسات من الفاسدين وفلول نظام مبارك، هؤلاء العمال اختاروا سلاح الإضراب لنضالاتهم ولم ينتظروا انتخابات تنتج برلمانا يصدر تعديلات تشريعية تحقق مطالبهم. كيف يمكننا أن نقرأ هذا، هل هو تكريس للوعي البرلماني أم خروج عنه. الجماهير في دمياط لم تنتظر انتخابات تتم خلال أسبوعين لإغلاق مصنع ينشر السموم على أرضها بل انطلقت في حراك جماهيري واسع ومستمر حتى كتابة هذه السطور لانجاز هذه المهمة. إن الجماهير التي لم تكتسب بعد وعيا مختلفا، تعبر أيضا عن حالة من فقدان الثقة في المؤسسات الحاكمة للنظام الرأسمالي وفى القوى السياسية الانتهازية، ولكن تظل العفوية هي العقبة الأهم في تطوير هذا الوعي وتنمية قدراته على إبداع أنماط سياسية وتنظيمية لسلطة بديلة، وعلينا أن نختار بين الوقوع في فخ تقديس العفوية وبين مواجهتها بهدف تجاوزها. أن بناء سلطة حقيقية للجماهير الشعبية يستلزم بالضرورة أن يكون هناك أدوات لهذه السلطة على المستوى السياسي والتنظيمي، وإذا كانت الرأسمالية تصنع برلمانها في هذا المناخ اللاديمقراطى وتسعى لتكريس تشريعات تخدم مصالحها وتخلق إعلامها الذي يرفع راياتها وشعاراتها، فلابد أن يكون للجماهير الشعبية أيضا تنظيماتها التي تتبنى النضال من أجل حقوقها، تنظيماتها الشعبية المنتخبة في الأحياء والقرى والمواقع الإنتاجية والخدمية والإدارية، والتي تمارس دورا فاعلا في الإدارة والرقابة والمتابعة، هذه المجالس واللجان الشعبية هي البرلمان الحقيقي للثورة، وهى أهم الأدوات التنظيمية التي بوسعها أن توحد نضالات جماهير الشعب في إطار ثوري متصل ودائم وأن تخلق آليات لدور شعبي فاعل في صنع القرار السياسي. إن شعارات تسليم السلطة للمدنيين إن لم تتزامن مع خلق أدوات السلطة البديلة، سلطة الشعب، سوف تؤدى بالقطع إلى تسليم السلطة لشخصيات أو أحزاب تعيد إنتاج نظام الاستبداد السياسي وربما بصورة أكثر بشاعة. إن الدعوة إلى انتخاب مجالس ولجان شعبية في كل المواقع وعقد مؤتمر عام لها هو المسار الصحيح لانتخاب برلمان الثورة، وهو المسار الوحيد لتسمية حكومة الثورة وتحديد برنامجها وصناعة آليات الرقابة الشعبية الحقيقية على أدائها وهى الضمان الأوحد للديمقراطية الحقيقية والجذرية، الديمقراطية التي لا تعنى فقط الحريات السياسية ولكنها تعنى أيضا بالحقوق الاجتماعية وعدالة توزيع الثروة. إن حالة الارتباك التي يشهدها الواقع السياسي الحالي وغياب التصورات العملية لإسقاط الحكم العسكري هي بالقطع ناتجة عن عجز الحركة الجماهيرية عن صنع أدوات سلطتها. لقد نجح العسكر في إنهاك الحركة الجماهيرية في مطالبات عديدة وصراعات على أكثر من محور وحاولوا حرف مسار الثورة نحو صراعات طائفية ونزاعات سياسية انتهازية مما خلق العديد من العثرات أمام تطور هذه الحركة. إن إسقاط الحكم العسكري لن تحققه الهتافات والشعارات في المظاهرات الجماهيرية وحدها ولكنه سيتحقق فقط بتطوير الأداء التنظيمي للحركة الجماهيرية في اتجاه بناء أدوات سلطة الشعب الحقيقية.