أعلم إنهم لن يلتفتواإلى بلاغي لو أخبرتهم بأنه مفقود منذ ساعات سبعة فحسب. كيف لهم أن يقيسوا كم القلق الذي يكاد يفتك بي ؟ أربعون دقيقة مع وضع الإختناقات المرورية في الاعتبار هي المدة الفاصلة بين لحظة مغادرته العمل و ساعة وصوله إلى البيت. ( تماما كالمدة التي كان يستغرقها أبي. كنا نسارع بفتح باب الشقة قبل أن يغرس مفتاحه فيه- في الثالثة إلا الثلث ..تماما ! ) سيسألونني إن كنت قد حاولت الاتصال به أو التنقيب في أماكن محتملة. ٍاجيبهم بأن محموله خارج النطاق و إنه غادر العمل في موعده ، و إنني لا أريد أن أقلق أحدا من الأسرة خاصة و إنه ليس ممن يهبطون على بيوت العائلة في زيارات ودية خاطفة. قد يرق قلب أحدهم لحالة الاضطراب التي تمسك بكل ذرة في جسدي، فيستفسر إن كانت له سابقة تأخير في الشهور السبعة التي مرت على زواجنا. نعم..ربما مرة أو اثنتين أو..ثلاثة ! لكنني على يقين بأن الله حين ألهم النفس البشرية رذيلة التأخير ألهمها أيضا فضيلة الاعتذار أو الاتصال. و أن يحدث هذا دون إخطار، فليس له سوى تفسيرا من اثنين..أن المتأخر قد تعرض لكارثة أكيدة، أو إنه قد...مات ! ماذا حقا لو كان قد م....!! هل أنتظر حتى يدعونني فجأة و ياتيني الخبر المروع لفأهرول على حالتي هذه ؟ أخرج ببصر زائغ و شعر مهوش و رداء النوم !! فلأتمالك نفسي قليلا No news is good news.. حتى الآن على الأقل. لأختر رداء وقورا يليق بأرملة شابة.. و شعري..يجب أن أهندمه قليلا و أسويه من الخلف.. و أضيف بعض الكحل. فلن أتمكن من النظر في المرآة قبل انقضاء أيام العزاء الثلاثة. ما هذا الذي أفكر فيه ؟ يوبخني ضميري ..زينة الوجه و الشعر و لم تتأكدي حتى من خبر وفاته بعد ؟! ها أنت قد قلتها. لم يتأكد شئ بعد ! لو عرفت جارات والدتك ما يدور في خلدك الآن لرددن إليك نظرات اللوم التي صوبتها نحوهن حين أتين ليقدمن لك هدية الخطوبة ، ثم نسين الغرض من الزيارة ، فأخذت كل منهن تغني على ليلاها. فانخرطت كبراهن في التلذذ بالحكي عن روعة الحياة بعد انقضاء عامين على رحيل رجلها الذي كان نموذجا مثاليا لشريك الحياة الطيب ! أي انقسام هذا الذي تمارسه حين تلقبه بالمرحوم وتقيم خاتمة على روحه كل بضعة أشهر و تشهد بأنها لم و لن ترى في مثل خلقه، ثم تغلق عينيها في ارتياح و تعلو ملامحها أمارات سعادة مستترة و هي تتشدق بلذة الحياة حين تستيقظ عن رغبة حقيقية في النهوض من الفراش.. و ليس لأن عليها أن تفعل لمجرد أنه يريد شايا و فطورا. و كيف إنها استغنت عن خادمتها الأسبوعية شبه نهائيا لأنها تُبقي البيت نظيفا ، و المطبخ لا تكاد تستغله إلا في إعداد كوب شاي أو رغيف بالجبن الأبيض، تتناوله بتلذذ و يشبعها و يبقيها خفيفة طوال اليوم. ثم تستطرد كيف تحسنت حالة عمودها الفقري بعدما استغنت عن القعود لساعات مطولة أمام التلفاز معه لمشاهدة أفلامه المحفوظة- بينما كانت ترغب في مشاهدة برامج تناقش أحداث الساعة و هي مضطجعة على سريرها ، فيغلبها نعاس لذيذ يحملها إلى نهار جديد ، و ليس مثل ذي قبل حين كانت تعاني من نوم متقطع على صوت أنفاسه و سعاله و تحركاته التي لا تهدأ، فتقوم منهكة القوى لتستقبل يوما تعرف أحداثه مسبقا. فجأة تهمس صغراهن متساءلة : في أي سن يهدأ الرجال ؟ تجيب أكثرهن صرامة : حين يموتون ! ( إثنان و سبعون بالمائة من الزوجات يتظاهرن بالرضى ! ) أحدث إحصائية تسلمتها على بريدي الإلكتروني ضمن إعلان من شركة تروج لبيع دمى للمتع البديلة ! هل تسرعت في قذف سهام نضراتي نحو تلك الجارات ؟ على أية حال لن أكون مثلهن. فبعد انقضاء عدة الوفاة لن أحتمل حياة فارغة و فراشا باردا. أعشق أن أستيقظ على أنفاس دافئة و نبرات حنونة و أرواح متصلة. على عكس الشائع، سيكون الاختيار في المرة الثانية أيسر ، فلن يخضع لمعايير الإسراع للخروج من بوتقة العنوسة و اللحاق بعجلة الإنجاب قبل حلول السن الخطرة ، و خشية التبتر على مقاييس الشريك المناسب حتى لا تحل لعنة الله فتأكلك الحسرة مدى الحياة. سأقابل هذا الجديد في العزاء. صديق قديم للمتوفى. لم أره من قبل. كان مهاجرا. و حين جاء في أجازة هاله الخبر. سيقدم لي يده في تأس فتمتد حرارة ما من شرايينه إلى شراييني تبعث حياة حقيقية في قلبي فيضخ أمانا و لهفة. كيف يجتمعان لا أدري ! سأترك الكف نفسه في حضن راحته و أنا أقول له ” زوجتك نفسي ” فتتلاقى عيوننا و يثبت كل منا حنانه في عيني الآخر كلما تلاقينا، حتى بعد أن يغزونا المشيب و تنحني ظهورنا. سندخل موسوعة جينيس في أطول نظرة حب و أعلى نسبة لهفة حتى بعد انقضاء خمسين عاما على زواجنا ! أتفحص هيئتي في المآة. ردائي الوقور. شعري المصفف و عيناي الكحيلتين. أغمضهما و أستنشق نفسا في سلام عميق. تجرح الصمت نغمة مألوفة حادة النبرة. جرس الباب. أنتفض و أفتحه لاهثة لأجده شاخصا أمامي. سليما معافى. لا يعلو وجهه ضيق أو أسى و لا يحمل عذرا عن التأخير ! ” قابلي رجلك بابتسامة “ ” لا تحزني بين يديه و هو فرحا “ أتهاوى على أقرب مقعد و أنخرط في نوبة نهنهة.