لا مناص من أن يبدأ هذا المقال بتعليقات خاطفة على أحداث الأحد الدامي يوم 9 سبتمبر. من المتفق عليه أن الأحداث بدأت بمظاهرة سلمية من المصريين الأقباط الذين يعانون مظالم مبررة يتطرق إليها باقي المقال، ثم تسلل إليهم شقاة مأجورين، قد لا يكونوا مسيحيين، مسلحين بأدوات العنف والتخريب، ولا شك عندي في أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحكومته يعلمون يقينا من يموّل هؤلاء الرعاع ويحركهم، ومع ذلك يصر المجلس وحكومته على حماية هؤلاء العابثين بمقدرات الوطن. وقد نقلت الصحف أن السلطة الانتقالية الحاكمة دفعت بجيش صغير من 150 مدرعة و 5000 فرد بقيادة لواء لمواجهة المتظاهرين، ولنا ان نتساءل أين مثل هذه الهمة في مواجهة أنذال النظام الساقط، ومحركي جميع عثرات المرحلة الانتقالية؟! ولا ريب عندي في أن دهس مدرعات الجيش للمتظاهرين عمدا، والذي وثقته الصحافة الأجنبية، ينقض الشرف العسكري لجيش مصر العظيم وينفي عن السلطة الحاكمة أي تعهد أعلنته بحماية حقوق الإنسان! ولنعد الآن إلى المعضل الأصل. لا يمكن عند توصيف حال مصر ومناقشة بدائل مستقبلها إهمال بلاء الفتنة الطائفية الذي يهدد سلامة نسيج المجتمع المصري وقد يعصف بمستقبله إن ترك ليتفاقم. من الضروري الاعتراف، بداية، بأن الاحتقان الطائفي الحاد بين”عنصري الأمة” من أغلبية المسلمين وأقلية المسيحيين “الأقباط”، يعود إلى قدر من التمييز الممارس فعلا ضد غير المسلمين، خاصة من قبل أجهزة الحكم، وإلى التعصب الديني، الذي يستعر في المجتمعات التي تنحط فيها قيمة المواطنة المتساوية، لدى جمهرة العنصرين. هذا الاحتقان ما فتئ يندلع في تجليات عنيفة بين الحين والآخر، يتصاعد أوارها باطراد حتى بات يحصد أرواحا بريئة من الطرفين. وبلغ الأمر ببعض متشددي الأقباط، خاصة المقيمين في الخارج، إلى استعداء الولاياتالمتحدة، وحتى إسرائيل، لحمايتهم. كما تلوّح الولاياتالمتحدة بورقة اضطهاد الأقباط كلما أرادت ممارسة ضغوط على الحكم في مصر. ويغذي هذا الاحتقان، ويزيد من مغبته، تجاهل الحكم لأسبابه الأصيلة، متغنيا بوحدة وطنية تبدو متوهمة أو مفتعلة خاصة في وقت اشتداد الاحتقان الطائفي أو استعار الفتنة، عزوفا عن اجتراح الحلول الناجعة للقضاء على جذور الاحتقان. وبديهي أن لن يجدي الحل الأمني وحده. حيث أزعم أن الجذر الأساس للاحتقان الطائفي يقع في افتقاد المواطنة المتساوية واحترام حقوق الإنسان بوجه عام من دون أي تمييز حسب المعتقد، خاصة في ممارسات السلطة. ونعلم الآن أنه في نظام حكم الرئيس المخلوع كان إشعال الحرائق الطائفية أحد مكائد هذا النظام، عتيد الإجرام، ضد وحدة الشعب المصري إلهاء له عن عدوه الأساس في نظام حكم الفساد والاستبداد. وأخشى أن السلطة الانتقالية في مصر الثورة، المجلس الأعلى وحكومته، ليست بريئة من اندلاع الحرائق الطائفية مؤخرا، وإن كنت أنزهِّ المجلس وحكومته عن القصد الدنيء في هذا الصدد. إلا أن أخطاء للسلطة الانتقالية ساهمت في الانتكاس إلى استعار الداء الطائفي بعد الثورة. بداية، فإن التباطؤ في القصاص من مجرمي النظام الساقط، مع تقاعس السلطة الانتقالية عن تطهير جنبات الدولة والمجتمع من فلول نظام الرئيس المخلوع، في أجهزة الأمن والمجالس المحلية وحتى في القضاء، بما يقي نسيج الدولة والشعب من كيدهم للثورة، قد يسّر لهؤلاء التمادي في تنفيذ مخططات النظام الساقط للإضرار بالثورة وبمستقبل البلد حرصا على مغانمهم الإجرامية التي تمرغوا فيها فيما قبل الثورة. فلا زالت قيادات في بقايا جهاز أمن الدولة الإجرامي المنحل مثلا، والذي كان يشعل الفتن الطائفية بلا حياء أو مروة، تتبوأ مواقع مؤثرة في وزارة الداخلية في حكومة الثورة. ومن ناحية أخرى، فإن من أطلق أعضاء جماعات الإسلام السياسي المتشددة، على مصر الثورة، من السجون ومن الخارج، من دون اتخاذ الاحتياطات اللازمة لتأمين الحريات في البلد، وفتح لهم أبواب الإعلام واسعة، بل وقدم بعضهم للناس باعتبارهم قادة المجتمع المعتمدين من السلطة الانتقالية، يتحمل قدرا من المسئولية عن الفتنة الطائفية التي تعود بعد الثورة لتهدد مستقبل مصر، ولو بداع من مساهمة هؤلاء في التهييج الأرعن وإلهاب مشاعر التعصب الأعمى المقيتة (هل رأيت عزيزي القارئ، آلاف البوسترات الفاخرة التي ارتفعت تحت مئات الذقون الكثة تقول “أنا عايز أختي كاميليا، قبل ما يقتلوها!!”, وأي مسلسل هابط ذلك الذي يدور كل حين حول اختطاف امرأة مسيحية أسلمت، أو مسلمة تحولت للمسيحية، وكأن الإسلام لن يعزّ إلا بمثلها!!). وليست هذه دعوة للانتقاص من حقوق أحد، ولكن كل المجتمعات الآمنة تضع ضوابط لنشاط من تُحرِّر بعد الانغماس في نشاطات مضرة بالمجتمع. و يتعين ألا ننسى هنا أن هذه الجماعات كانت من توابع النظام الساقط، وظلت تعقد الصفقات الانتهازية معه، بل وكانت من المروجين لطاعته ومنع الخروج عليه، ومن ثم فهي، باعترافها كانت إما مضادة للثورة أو من أشد المنافقين لحكم الطاغية المخلوع. كما أن هذه الجماعات يمكن أن تتقوى بدعم ضخم من قوى الرجعية العربية المناهضة لمصر الثورة، والرافضة لمبدأ محاكمة “أولي الأمر” خشية أن يطالهم يوما، ومن أعداء مصر الثورة غيرهم. ولا مناص من التأكيد على أن الحل الأمني الغاشم لن يكفي لقطع دابر الفتنة الطائفية في مصر, فليست متطلبات القضاء على هذا الاحتقان الكريه أقل من القضاء على جميع أشكال التمييز في المجتمع المصري واحترام حقوق الإنسان كافة من دون أي تمييز حسب الدين أو المعتقد، ليس فقط في البنية التشريعية ولكن في الإجراءات الإدارية كافة وفى السلوك المجتمعي على أرض الواقع المعاش. ولكن أي حكم تسلطي تحتكر فيه ثلة، أو جماعات متشددة، السلطة، ويهدر مبدأ المواطنة المتساوية، يقوم في الأساس على التمييز وعلى غمط حقوق الغالبية الساحقة من السكان، إن لم يكن جميع المواطنين ولو بدأ بالتمييز ضد أقلية مضطهدة، كما كان الحال تحت الحكم التسلطي الذي أسقطته الثورة. أما في مصر الثورة فيتعين أن تختفي جميع أشكال التمييز حسب الجنس او المعتقد. ومن هنا تتأكد أهمية ضمان تحول مصر إلى نمط من الحكم الديمقراطي الصالح يقوم على المواطنة المتساوية عبر مسار آمن ومضمون. ويتبع ذلك تشديد العقوبات القانونية على من ينتهك حقوق أي مواطن بداع من التمييز على أساس الجنس أو الدين. ولهذا، فعلينا أن نضع مبدأ المواطنة المتساوية للجميع على رأس أولويات البناء الدستوري والمؤسسي لمصر الثورة، وأخشى أن مسار لجنة المستشار البشري- المجلس الأعلى للقوات المسلحة لإدارة المرحلة الانتقالية يقود إلى عكس ذلك تماما، ويرجَّح أن يفضي إلى انتقاص جسيم في حقوق النساء وغير المسلمين، لا سيما في مجال الحقوق المدنية السياسية. وهذا سبب آخر وجيه للعدول عن هذا المسار، والتحول إلى صوغ دستور مصر الحرية والعدل على أساس حوار شعبي واسع وعميق تهتدي بنتاجه جمعية تأسيسية تمثل جميع أطياف الشعب العظيم ولا تُستثني أي من فئاته في صياغة مواد الدستور.