بداية, يتعين أن يكون واضحا أن المقصود بتصحيح المسار, في منظور ثورة شعب مصر الفل, هو تصحيح مسار السلطة الانتقالية في حماية الثورة, أي مسار المجلس الأعلي للقوات المسلحة وحكومته بقيادة عصام شرف وليس من الثورة في شيء. أما مسار الثورة فهو صحيح ومعروف ولكن السلطة الانتقالية تتفنن في الانحراف عنه, إما عن غرض أو هوي أو قلة فطنة. ولعل أهم أحداث جمعة تصحيح مسار السلطة الانتقالية, التي يتعين استخلاص الدروس منها, هي مظاهر التعبير عن الغضب الشعبي تجاه الدولة الباغية إسرائيل, ممثلة في سفارتها في القاهرة. ولا مناص من الإفصاح, في البداية, عن أن الكاتب يضمر اإزدراء شديدا للدولة العنصرية الغاصبة باعتبارها النموذج الوحيد الباقي في العالم علي أحط أنواع الاحتلال الاستيطاني العنصري البغيض. ومع ذلك ما كان الكاتب يتمني أن يصل التعبير عن الحس الوطني الشعبي إلي حد اقتحام سفارة الدولة العنصرية, ما دامت مصر الرسمية تبقي علي معاهدة سلام مع الدولة الباغية, ولو كانت المعاهدة جائرة وأبرمها طاغية سابق من دون أي استشارة شعبية جادة. إلا أن السهولة المطلقة التي تمت بها عملية اقتحام السفارة, والوقت المتأخر التي جرت فيه, بعد ساعات طوال من هدم الجدار تثير الشكوك حول تواطؤ مريب من قبل أجهزة الأمن أو, إن أردنا إحسان الظن, تقصير بالغ من هذه الأجهزة. ولكن من الضروري التأكيد علي أن المجلس العسكري وحكومته يتحملان كامل المسئولية عن واقعة هدم الجدار الحامي وعن اقتحام سفارة الدولة العنصرية الغاصبة وتبعاتها. فقد أصرت السلطة الانتقالية, في تمثلها للسياسة الخارجية لنظام الطاغية المخلوع, خادم الصهيونية, علي تجاهل الحس الوطني, بل ومعاداته, بتخاذلها في اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحفاظ علي كرامة مصر والمصريين في مواجهة السلوك العدائي المتصاعد للدولة العنصرية والصلف الإسرائيلي, ولو في حدود الأعراف الدبلوماسية المقبولة. وفضح تخاذل السلطة الانتقالية في مصر ذلك الموقف الأبي الكريم لحكومة تركيا, لا سيما رئيس وزرائها الرائع رجب أردوجان, تجاه جريمة إسرائيلية مشابهة علي الرغم من أن إسرائيل عرضت تعويضات مجزية عن الضحايا الأتراك, وإن رفضت الاعتذار, وعلي الرغم من متانة العلاقات التركية الإسرائيلية في السابق ودون أي إعلان للحرب. وبدلا من مجرد استدعاء السفير المصري لدي الدولة المعتدية, وفق التحقيق الدولي الذي جري, وهو أمر معتاد بين الدول أوقات الأزمات, أنفقت الحكومة أموال المصريين علي بناء جدار أسمنتي كريه أمام سفارة الدولة المعتدية وكأنها تتمثل ذهنية سلطة الاحتلال التي تعزل المحتلين عمن إغتصبت أرضهم كما في الضفة الغربية لفلسطين. وفي البداية جاء رد الفعل الشعبي وطنيا ورقيقا في الوقت نفسه بصبغ الجدار الكرية بألوان علم الوطن وشعارات وطنية. ولكن المشاعر تدفقت, وحتما تجاوزت, بداع من أسباب أخري للغضب الشعبي تجاه السلطة الانتقالية والدولة الغاصبة علي حد سواء, كما يحدث في سخونة التجمعات الكبيرة والمناخ القائظ الحرارة. وزاد الطين بلة ردود فعل قوي الأمن, الشرطي والعسكري, التي ما زالت تفهم وظيفتها علي أنها قمع الشعب, ما أدي إلي وقوع اكثر من ألف مصاب. وهكذا, لو تعلم السلطة الانتقالية, تتجذر الوقيعة بين الشعب وقوي الأمن, المدني والعسكري, بالبطش بالمواطنين, وليس بالمؤامرات المبهمة التي تحذرنا منها السلطة الانتقالية مبتعدة طول الوقت عن الحماية الآمنة للتعبير السلمي عن الرأي, بينما تهتم بتأمين مباريات كرة القدم. وإن استغل الأمن المركزي هذه المباريات مؤخرا للانتقام من شباب مشجعين متعصبين عبروا عن رأيهم في جلاد الداخلية الأسبق والطاغية المخلوع بضراوة افتقدتها السلطة الانتقالية في التعامل مع الدولة المعتدية ومع بلطجية النظام الساقط. لقد صار واجبا علي السلطة الانتقالية أن تفهم أن تدليل الداخلية والشرطة لم يجد, ولن يجدي أبدا, فلا بد من إعادة صياغة كاملة لمنظومة الأمن في حدود دورها الدستوري والاحترام الكامل لسيادة القانون وحقوق الإنسان. ولا يفيد كذلك إطلاق يد الشرطة العسكرية بعقيدة لا تختلف عن عقيدة البطش الأمني لداخلية الجلاد حبيب العادلي, والتي ما زالت مسيطرة علي وزارة الداخلية في حكومة المجلس الأعلي للقوات المسلحة, وعلي شرطته العسكرية. وللأسف, بلغت الخسائر قمتها باقتحام السفارة, والهجوم علي إحدي مديريات الأمن ومحاولة إحراق مصلحة الأدلة الجنائية. وهذه كلها أحداث مريبة, نرجو من السلطة الانتقالية أن تتفهم أن لا مصلحة لأحد فيها إلا مجرمي النظام الساقط المقدمين للمحاكمة الجنائية وغيرهم الذين ما زالوا طلقاء يعيثون في مصر فسادا ويعملون بحرية لإجهاض ثورة شعبها العظيمة. ولامشتبه فيه بارتكاب الجريمة المستنكرة, من ثم, ولا يمكن أن يقدم عليها, إلا الشقاة الصعاليك الذين يستأجرهم أنذال النظام الساقط للقيام بأغراضهم الدنيئة. وعلي هؤلاء يتعين علي السلطة الانتقالية أن تصب جام غضبها بدلا من تدليلهم كما اعتادت. وهكذا, في النهاية, تسبب الفعل الجمعي الشعبي في هروب سفير الدولة المعتدية, أو بالأحري طرده من أرض مصر الطاهرة. وكأن الشعب أراد, في ضميره الجمعي, أن يبلغ السلطة الانتقالية أن بوسع الفعل الثوري الشعبي تحقيق غاياته التي تتخاذل السلطة الانتقالية عن الوفاء بها, باعتبارها مكلفة بخدمة الشعب. وبناء عليه, فعلي السلطة الانتقالية الاعتذار للشعب عن تهاونها في حماية كرامة مصر والمصريين, وشكره علي الاقتصاص للكرامة المهدرة, وليس عقابه بالإجراءات الانتقامية للشرطة والقضاء العسكريين, كما اعتادت أخيرا. لقد تسبب في هدم الجدار الحامي الذي أقامته السلطة الانتقالية وتزيد اقتحام السفارة, في النهاية, تجاهل المجلس العسكري وحكومته للحس الوطني الشعبي, وإصرارهما علي حماية العدو قبل أي شيء, ولو بالتهاون في حق البلد والشعب, خاصة بالمقارنة بتركيا. ومن ثم كان طبيعيا أن ينفجر الغضب الشعبي في جمعة تصحيح المسار, في مواجهة صلف العدو الإسرائيلي, وتخاذل السلطة الانتقالية كليهما. ولكن, من أسف, أن رد فعل السلطة الانتقالية, جاء معيبا. فقد أعاد المجلس العسكري وحكومته مصر إلي أسوأ وصمات حكم مبارك: الطوارئ ومحاكم أمن الدولة, وتقييد الإعلام. وهل هذا مناخ استعداد لانتخابات؟ وفي ظل وزير إعلام المجلس العسكري, عاد التليفزيون الحكومي إلي سابق عهده. في يوم تال لجمعة تصحيح المسار كانت مذيعة, لا تستحق أن يذكر اسمها, تحاور وزير العدل علي القناة الأولي. ومن عجب أن وزير العدل كان يتحدث كضابط أمن دولة وليس كقاض, وكانت المذيعة تتباري معه في التحريض علي المتظاهرين والثوار! فمتي تعترف السلطة الانتقالية بأخطائها, وتتخذ إجراءات جادة لتصحيح مسارها في حماية الثورة. لقد آن الأوان لكي يتفهم المجلس العسكري وحكومته أن مصر بها ثورة شعبية حقيقية وأن الشعب صار عصيا علي التدجين أو الترويع. ومن ثم, فإن الدرس الأول والأهم الذي يجب أن تتعلمه السلطة الانتقالية هو أن الشرف العسكري لجيش الشعب, والوطنية الحق للمجلس الأعلي للقوات المسلحة وحكومته, يفرضان علي الجهتين المنوطتين بالمسئولية عن المرحلة الانتقالية, ضرورة التعلم من الحس الوطني الشعبي والتصرف علي أساسه, وبهداه, حتي يصح مسارهما في حماية الثورة لتكتمل ويضعا مصر علي طريق نيل غايات الثورة في الحرية والعدل و الكرامة الإنسانية للجميع علي أرض الكنانة. وإلا, فقد حكما علي أنفسهما بمحاولة إجهاض الثورة, وأوجبا اندلاع موجات تالية من الثورة الشعبية ضد السلطة الانتقالية ذاتها. المزيد من مقالات د . نادر فرجانى