بينما يختتم فلاح قرية هرية رزنة بمحافظة الشرقية صلاة العصر كانت مجموعة من الأطفال والشباب تجري في اتجاه المسجد صارخة: إلحق يا عم عرابي ابنك أحمد خطفه الرجل أبو عباءة سوداء مع أولاد غيره من أولاد البلد،وهرع عرابي مع غيره من أهالي المخطوفين ليجدوا الجنود ينطلقون بالأطفال إلى (الدهبية) الراسية علي الشاطئ وفي مقدمتها وقف الشيخ المهيب يرقب تنفيذ الجند لمهمتهم في جمع الأطفال الذين(تبدو علي وجوههم النجابة)علي حد قوله، وبينما انخرط الأطفال في البكاء وهم يحاولون الإفلات من قبضة الجند بدا الصغير أحمد هادئا ثابت القلب مما لفت نظر ذوالعباءة السوداء فقرب الطفل الصبوح الوجه مديد القامة إليه وسأله عن اسمه فرد قائلا: أحمد عرابي ..! فربت علي كتفه وهو يهمس في سره: سيكون لك شأن بإذن الله. وفي تلك اللحظة ظهرت جموع الأهالي وهم يصرخون: اترك أولادنا ياباشا فنظر اليهم بوقار:اتركوهم لي ولن تندموا..فهم ذاهبون إلى مدرسة الوالي وسيعودون إليكم رجالا نفخر بهم جميعا. وإذ يتراجع الأهل في يأس تنطلق السفينة حاملة علي متنها الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي كان يلعب باقتدار دور مكتب التنسيق القديم في اختيار الموهوبين ليدشن بهم نهضة مصر الحديثة. المشهد الثاني: اعتاد ملوك وأمراء أوروبا والشرق أن يمنحوا لقب (فارس) للمخلصين من جنودهم عندما يثبتون الولاء ويقدمون علي التضحية بالنفس من أجل الحاكم وما أن تتم مراسيم الاحتفال حتي يهتف الضابط الجديد قائلا: حفظ الله الملك..!وينطلق مدافعاً عن مليكه ظالماً أومظلوماً ضد من يسمونهم بالغوغاء والدهماء أوبمعني أصح ضد الشعب. المشهد الثالث: وبقدرحصافة وذكاء محمد علي وقوة شخصيته ومهارته في إدارة مشروع النهضة لمصر الحديثة بقدر ضعف وهشاشة حفيده الخديوي توفيق فالأول اعتلي الحكم بمساندة الشعب المصري بزعامة عمر مكرم وقد أدرك منذ اللحظة الأولي أن مفتاح القوة الحقيقي هو الشعب المصري وليس سواه، فلجأ إلى الشعب المصري لكي يكون جيشه العظيم الذي فتح أفريقيا وسيطرعلي الحجاز ومعظم شبه الجزيرة العربية وهدد الآستانة عاصمة تركيا بعد استيلائه علي الشام،وذلك كله في زمن قصير لم يتجاوز العشرين عاما رغم أنه تسلم مصر في أعقاب الحملة الفرنسية عام 1805التي خلفت خرابا أضيف الي ما فعله المماليك. فلم تكتف مصر بالخروج من عصور المماليك والاحتلال الفرنسي وإنما تحولت الي قوة عسكرية ضاربة تخشاها أقوى قوتين في عصرها هما انجلترا وفرنسا وتحولت من ولاية تابعة للخلافة العثمانية إلى دولة مستقلة ناهضة في ذلك الوقت الوجيزالذي يجهله الكثيرون ممن يجلسون في وسائل الإعلام ليرسموا سيناريوهاتهم الخائبة للخروج من الأزمات الحالية. فإذا عدنا إلى الخديو توفيق الذي جاء إلى الحكم عقب ضرب مشروع النهضة المصرية الحديثة وبمساندة الدول الاستعمارية فسوف نلاحظ أنه توجه شأن العملاء من الحكام الي طلب الرضا من انجلترا وفرنسا ولم يكن الرضا ليتحقق إلا بتحقيق مصالح المستعمر علي حساب الوطن والشعب. وظن توفيق أنه وفقا لما قرأه في كتاب القراءة الرشيدة للحاكم العميل أن الجيش المصري هو صنيعة الحاكم كما يحدث في غالبية الحالات في أوروبا وأن الضباط يهتفون في كل السيناريوهات: حفظ الله الملك! المشهد الثالث:صدمة الخديوي وقد اكتشف توفيق متأخرا جداً أن المصريين يفاجأون الدنيا بسيناريو خاص جدا،عندما هرول الي خارج القصر يصحبه ولي نعمته مندوب أوروبا ليستطلع الجلبة التي أحدثتها قعقعة سلاح الجند الذين قادهم الضابط أحمد عرابي إلى قصرعابدين في مشهد سجله التاريخ في أنصع صفحاته وإذ يستنكر الخديوي مدهوشا ما أقدم عليه الضابط الفلاح والذي كان أول من ارتدي بزة الضابط من المصريين بعد أن كانت رتبة الضابط قاصرة علي الجراكسة والأتراك من العسكريين. وعندما حاول توفيق أن يذكر الزعيم أحمد عرابي بالقاعدة التقليدية بأن الضباط هم عبيد إحسان الملوك فاجأه عرابي بالاستثناء المصري: لقد ولدتنا أمهاتنا أحرارا ولم تلدنا تراثا ولاعقارا..والله لن نورث بعد اليوم!! وهكذا تحققت نبوءة رفاعة الطهطاوي ابن الشعب ومؤسس حركة التنوير في مصر الحديثة بصدد أحمد عرابي الطفل المخطوف من عمق الريف المصري إلى أعلي السلم العسكري والذي هتف في لحظة سطوع نجمه: حفظ الله الشعب. وقد بقي هذا الهتاف منذ لحظة المواجهة بين الخديوي الخائن والزعيم الوطني هو (البوصلة) التي يتخذها الجيش المصري لتهديه السبيل ولتجعله خير أجناد الأرض والتي أخرجته الي ميدان التحرير ليهتف: حفظ الله الشعب..!