ما أنتجته إرادة جمال عبد الناصر وعقلية عزيز صدقي وأيادي جيل الستينات من المستحيل أن يصير هباءًا منثورًا، ومهما طالت فكرة القطاع العام من أيادٍ تخريبية على المستوى العملي أو الدعائي، ونجحت في فترات ما في تشويهه والحط من قيمته، فلن تقدر على اجتثاث كلّي لإيمان الشعب خاصة الفقراء ومحدودي الدخل وهم الأغلبية، بضرورة وجود قطاع عام قوي يتبنى النهوض بالصناعات الثقيلة غير فورية العائد، ويحمل على كاهله الوطن عند الأزمات ويغنيه عن سؤال اللئيم ويحفظ له إستقلاله، ولا يترك السوق في أيدي حفنة من رجال الأعمال قد تسول لهم أنفسهم مص دماء الناس من أجل أن تزداد أرصدتهم في بنوك الخارج، خاصة وان الظروف في بلادنا سانحة لتطبيق النمط الأحقر من الرأسمالية حين تغيب المنافسة وتختلط السلطة برأس المال. "حد يشتري دولة ؟!".. كانت جزءا من ردّ أحد عمال مصنع الحديد والصلب بحلوان، الذي أبدت قسمات وجهه تضاريس عمر طويل عاشه، عندما سأله مراسل أحد القنوات الفضائية عن رأيه فيما يتم من عمليات تدمير للمصنع بهدف بيعه.. العامل استطرد في رده قائلا: "عشت أيام العزة والكرامة في عهد عبد الناصر حين كانت المصانع تُبتى بالعرق والدماء قبل الحجارة، فمن يجرؤ اليوم على هدم هذا البناء ومن سيسمح ومن سيشتري ؟!". صحيح أن الأيادي الآثمة التي أقدمت على تنفيذ مخطط الخصخصة حققت مرادها بتخريب الكثير من مصانع القطاع العام، وصحيح أن أفلام السبعينات والثمانينات ومقالات كبار كتاب العهد الساداتي، قد أسهمت في تشويه الحقائق حين حاربت بكل قوة فكرة ملكية الدولة للمصانع والشركات وروجت ترويجاً بشعاً للقطاع الخاص الذي يتحرك دون ضوابط وليس في إطار الرأسمالية الوطنية، فانتجت جيلا مختلًا يعاني الأعراض – البطالة وإرتفاع الأسعار والتبيعة السياسية – ويبارك المرض في الوقت ذاته، لكن الأغلبية التي ظلت بعيدة عن ترهات المثقفين تتعامل مع الواقع بتفاصيله وتستغني به عن مشاهدة أعمال درامية موجهة، وعن قراءة تحليلات وتحقيقات صحفية مدفوعة، بقيت هي الكاشفة لبواطن الأمور ترى الخطر على حقيقته، وتربط بين بقاء أشياء مثل "القطاع العام – الجيش – القضاء – الداخلية " وبقاء الدولة ذاتها، وتميّز بين من ينتقد بهدف إصلاح لازم، وبين يبرز المشكلات بهدف التدمير. لاشك ان العمل الجيد الذي يتخطى عصره ويمتد أثره، يغنيك عن الدفاع عن نفسك، بمكوثه في الأرض، فيُخرس أعداءك، ويجبرهم حتى بغير طيب الخاطر، على الثناء عليك، كان هذا ما حدث بالضبط عندما دخل الرئيس المعزول محمد مرسي الذي ينتمي لجماعة تخاصم عبد الناصر ومشروعه على طول الخط، إلي مصنع الحديد والصلب للمرة الأولى في زيارة رسمية، بعد توليه السلطة بشهور، فما كان منه، في محاولة لكسب ود العمال، أو ربما خاضعاً للحظة صدق أرغمه عليها ضخامة المكان الذي وجد نفسه فيه، إلا أن قال سأسير على خطى عبدالناصر وعزيز صدقي.. لكنها الكلمة التي فارقت شفتاه والكل يعلم أنها لن تحدث أثراً لأنها لا تعكس حقيقة. عشنا في العشر سنوات الأخيرة من حكم مبارك ونحن نتجرع مرارة تحطيم القطاع العام وبيعه بأرخص مما يباع التراب لعدد من المستثمرين المرتبطين برأس المال الأجنبي، وضحى النظام حينها بوجود صناعات ثقيلة واعتمد على إرث عبد الناصر الذي خشي الإجهاز عليه تماماً تجنبا لغضب قطاعات شعبية واسعة على رأسها الحركات العمالية، أعجب ما قام به أرباب مشروع الخصخصة داخل نظام مبارك أنهم عندما شرعوا في بيع المصانع بدأوا بالمصانع الرابحة بحجة ان هذا سيجذب المستثمرين، فتلاعب بهم رجال الأعمال، ثم تلاعبوا بالمجتمع ككل من خلال لعبة الأجور والأسعار، فخفّضوا الأولى ورفعوا الثانية، حيث أثبتت الدراسات الأخيرة أن 65% من عمال القطاع الخاص تقل رواتبهم عن 1200 جنيه، في المقابل فإن 16% فقط من عمال القطاع العام هم من تقل رواتبهم عن هذا المبلغ. لا نقول بأن القطاع العام الحالي أو بصيغة أدق ما تبقى منه لا يحتاج إلى ترميم وإعادة ترتيب وبذل جهد أكبر في إعادة دورة الإنتاج به، غير غافلين أن بعض مما أصاب القطاع العام في السنوات الأخيرة كان وراءه سماسرة الخصخصة حتى يسهلوا عملية بيعه، فتنقتل من المسائل المحرومة إلى المسائل الضرورية التي لا بديل عنها. وحتى يتم التعامل مع قضية إصلاح القطاع العام بطريقة سليمة وجب إدراك ثلاث حقائق: الأولى.. أنه لا دولة حقيقية يمكن لها أن تشيد أركانها دونما قطاع عام قوي يسانده رأس مال وطني في إطار خطة مدروسة لتمنية شاملة ومستقلة. الثانية.. أن بيع القطاع العام، والذي تصر عليه الأنظمة المصرية المتعاقبة منذ منتصف السبيعينات، ليس مجرد توجه للدولة نحو الرأسمالية على حساب إشتراكية عبدالناصر، وإنما تنفيذا لقرارات صدرت عن دوائر ومؤسسات غربية، واستجابت لها الإدارة المصرية طمعا في رضا البيت الأبيض وأحبابه، (بعد أن رصدت مراكز بحثية غربية أهمية الدور الذي لعبه القطاع العام في تمويل المجهود الحربي). الثالثة.. أن إعادة البناء ليست مستحيلة، في ظل إحتفاظ الجيش المصري برصيد من الإستثمارات خارج إطار الإحتكارات الرأسمالية العالمية، توسّع فيها – إلي حد ما – تحديداً بعدما أطلق نظام "حسني مبارك" العنان لتطبيق سياسة الخصخصة فى بدايات عام 1993 فى عهد حكومة د.عاطف صدقى و ضمن حزمة من الإجراءات التى التزم بها للوصول إلى إتفاق مع البنك الدولى، وبدأت ببيع شركة الكوكاكولا وبيع فندق شيراتون القاهرة، وأرادت المؤسسة العسكرية وجود اقتصاد قوي كاحتياطى استراتيجى لمصر فى مواجهة الخصخصة وما يتبعها من تمدد سلطة المستثمرين الجانب والعرب، كما تم إنشاء عدد من الشركات المدنية بعد بيع القطاع العام الذي كان يمد القوات المسلحة بمستلزماتها كالأغذية، لضمان توفير هذه المواد، وليس من أجل التربح.. ولعل هذا ما يفسر بعضاً من هجوم منظمات غربية ومحلية تعمل على ذات الأجندة، على الجيش المصري، وإثارة الشائعات بين الحين والآخر عن إقتصاده، حيث أفسد الجيش بخططه ما أراده الغرب من تفكيك كامل للإقتصاد المصري وتطويع للمؤسسة العسكرية.. ووضَع لبنة إستنادا عليها يمكن أن تبعث الروح من جديد في القطاع العام.