قد نقبل أن يظل ‘الاستحمار‘ أحد الأساليب والتكتيكات شديدة النوعية والفاعلية لقوى وليست فلول النظام البائد ، والمستفيدين سياسيا من مكتسبات الثورة المصرية قد نقبل على اعتبار أن من ‘يستحمر . فإنه يستحمر نفسه فى النهاية ‘ .. حكمة مصرية صميمة .. ولكن أن تصل درجة التعاطى مع ‘جمعة تصحيح المسار‘ وما تبعها من أحداث السفارة الصهيونية ومديرية أمن الجيزة ومحيطهما كما التعاطى مع نكتة الحرب الافتراضية التى نشبت بين مصر وباكستان بسبب الخلاف على ملكية البيضة التى باضها ‘ديك‘ على الحدود بين البلدين !! هنا فقط نكتشف أن ‘الاستحمار‘ يتجاوز حدود الحكمة ليصبح ‘استحمارا‘ فى المطلق .. عشرات آلاف المتابعين فضلا عن آلاف التقارير والقصص الإخبارية رصدت الجزء الأول من فعاليات جمعة تصحيح المسار ، وهى فى أبسط عناصرها وأكثرها إشراقا .. جمعة دعت إليها قوى وائتلافات ثورية وسياسية توافقت على مطالب وشعارات محددة ، بينما خرجت عنها قوى أخرى ، الظاهر منها بوضوح القوى الدينية التى دعت بعضها ضد المليونية المُفترضة بينما اكتفت القوى الأخرى بالدعاء عليها .. حتى قبل صلاة الجمعة بدقائق ومع عدم الإقبال الجماهيرى المتوقع وغياب معظم أصحاب الدعوة أنفسهم خاصة من القوى السياسية التى اكتفت بإرسال مندوبيها للتوقيع فى كشف الحضور وتوزيع البيانات المطبوعة .. بدا هذا واضحا للوهلة الأولى بغياب زحام وصراخ المنصات الحزبية المعتادة والاكتفاء بمنصة واحدة تم تجهيزها على عجل وتشغيلها قبل الظهر بدقائق وتحت وقع المطارق الإعلامية العنيفة التى انهالت للتقليل من حجم المليونية والتحريض المباشر ضدها ، بدأت تتسرب حالة من اليأس والشعور بالفشل والعار .. ولكن سرعان ما بددها ذلك الظهور القوى والمفاجىء لحشود آلاف الشباب من ‘ألتراس‘ مشجعى النادى الأهلى و‘وايت نايتس‘ الزمالك ونشطاء حركة شباب 6 أبريل والاشتراكيون الثوريون وحشد ونشطاء ومجموعات مستقلة كثيرة .. عمليا كان هذا الظهور هو الفعل ‘الثورى‘ الأقوى والأكثر لفتا للأنظار ميدانيا ولكن إعلاميا ومع احتدام حالة الغضب وشعارات السب والقذف والشتم المباشر التى يشهدها الميدان لأول مرة فى تطور نوعى جديد ضد الداخلية ورموزها كان لابد من قطع البث المباشر أو التشويش عليه ، أو التعتيم على الصوت وبالضرورة عدم تعاطى هذه الشعارات عبر الرسائل الإعلامية المختلفة .. ولكن وللمفاجأة صادفت هذه الشعارات ميدانيا حالة اصطفاف قوى ومُدهش أنعش جماهير الميدان ومنحها بعض ثقتها فى قدراتها الثورية ، بينما أربك الخطاب الإعلامى العدائى المُعد سلفا لأيام مقبلة .. جابت المسيرة الضخمة شوارع محيط ميدان التحرير وانتهت عمليا بنجاح الشباب الغاضب على خلفيات متعددة فى الانتقام من الأمن بانتزاع الشعار النحاسى الضخم لوزارة الداخلية من على الواجهة الرئيسية للمبنى .. الدعوة المُعلنة مسبقا لهدم ‘الجدار الشارونى‘ العازل حول مقر السفارة الصهيونية كانت حاضرة بقوة عبر الشعارات ومجموعات ‘حملة الشواكيش‘ رغم أن المنصة الوحيدة بالميدان كانت قد أعلنت تحت وطأة الشعور بالفشل تأجيلها .. وتحت شعارات أخرى كثيرة مطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية وإطلاق سراح المعتقلين وعدم محاكمة المدنيين عسكريا .. انطلقت مجموعات المتظاهرين للاستجابة للدعوة بصورة عفوية وليست عشوائية ، وبالضرورة ليست مُخططة أومُعدة سلفا باتجاه السفارة لهدم الجدار المُستفز ، وهو ما تحقق بانضمام مئات متحمسة أخرى خرجت من مناطق وأحياء مجاورة وليس من ميدان التحرير فحسب ، شاركت بقوة فى الحدث الأهم وهو هدم الجدار وتسلق المبنى وإسقاط العلم الصهيونى .. الجزء الثانى المُظلم من الرواية التى تضمنت عملية الاقتحام وحرائق مبنى الأدلة الجنائية ومديرية الأمن وسفارة آل سعود ، قُتل بحثا وتحليلا وتخمينا وضربا بالودع ، ومع هذا وللمفارقة يظل الأكثر ارتباكا ولكن لحُسن الحظ الأكثر قدرة على فرز المواقف بين من يتلقف كل رسائله من الإعلام ومن يشارك فى صنعها أو على الأقل رصدها فى الميدان .. وإزاء حدث كبير كهذا وليس مُفزعا كما أراد الكثيرون تصويره كان لابد من اندياح حالة فوضى المواقف العظيمة التى اعتدنا عليها فى مثل هكذا مناسبات ، والتى بلورت هذه المرة ثلاث كتل رئيسية وضخمة قامت بممارسة أقصى درجات ‘الاستحمار‘ ببناء معظم مواقفها على تفصيلة ما وقع من تهجم على السفارة الصهيونية وأحداث العنف التى جرت ليل الجمعة وصبيحة السبت دون النظر لأى شىء آخر .. الكتلة الأولى يمثلها فريق أول شديد الفزع والحرص والحيطة ، يرى فيما تم استفزازا للإسرائيليين ربما تُضطر معه مصر لتقديم اعتذارات رسمية ، وإلا احتمال الجرجرة والدخول فى حرب نحن غير مستعدين لها ، كما أنه يجب الانتباه لعدم الوقوع فى فخ المؤامرة ‘الصهيوأمريكية‘ باستدراجنا إلى حرب هدفها تدمير الجيش المصرى القوة العسكرية الوحيدة المتبقية فى المنطقة بعد تدمير الجيوش العراقية والليبية والسورية .. هذا الفريق ينطلق من قاعدة الافتراض بأن الاستعداد للحروب يظل دائما معلقا برغبات العدو متى شاء يبدأ هو بالاعتداء أولا لنستعد نحن تاليا !! ومن افتراض أن الجيوش العربية التقليدية مجتمعة تشكل تهديدا حاسما ضد الدولة العبرية مثلا ، أو أن الإسرائيليين كانوا متشنجين فى ردات فعلهم على حادث اقتحام السفارة وهائجين للدرجة التى عكستها تصريحاتهم ،، الحريصة وللمفارقة على التهدئة والطمأنة بقرب عودة السفير ، بل وإنكار عملية الاقتحام من الأصل !! وعلى افتراض أهم بأن الجيوش العربية المُحطمة قد سجلت أعظم بطولاتها على ساحات العدو وليس على ساحات التغيير فى ميادين بلادها .. وهناك فريق ثان عاقل حريص على عدم المساس بهيبة الدولة ، وإحراج مصر دوليا ، ويرون أن هذا التصرف غير المسؤول مخالف للقوانين والأعراف الدولية ، ويعتبر تعديا على سيادة دولة أجنبية يعرضنا للوقوع تحت طائلة القانون الدولى .. هذا الفريق يفترض بداية أن إسرائيل دولة حقيقية وفق المعايير الأخلاقية تربطنا معها علاقات طبيعية ضاربة بجذورها عبر التاريخ ، وأنها ليست عدوا كل ما بيننا وبينه تاريخ مؤلم لحروب دامية ضحيتها عشرات آلاف العسكريين والمدنيين .. وربما يفترض أنها دولة تلتزم بالمعايير القانونية والدولية وتربطنا بها معاهدات سلام واتفاقات وتفاهمات تُحترم من الطرفين .. مع التغاضى عن آخر تجليات الاحترام وليس أولها بكسر هيبة الدولة المصرية وإهدار كرامتها باختراق السيادة والحدود بقوات عسكرية قامت بقتل جنود مصريين غير مسلحين تقريبا ، فضلا عن مئات الخروقات المتكررة التى يروح ضحيتها العشرات من المصريين المدنيين والعسكريين باستمرار !! وهناك فريق ثالث أكثر ذكاء يمسك بالعصا من المنتصف وهو الأخطر ليخلط بكل مهارات الحواة بين ما هو ثورى وما هو سياسى ، فيرى أن مثل هذه الأعمال الاحتجاجية العنيفة خاصة فيما له علاقة بملفات الخارج تأتى فى غير وقتها باعتبارها قضايا مؤجلة ، والانشغال بها يحرف الأنظار عن استحقاقات الداخل والعملية السياسية التى بدأت بالفعل ويجب أن ندخل أو نُحشر فيها ، ولا مانع لدى هذا الفريق من باب التسخين الخطابى الحديث عن احتمال وجود مؤامرة ضد الثورة ومكتسباتها ، ويصرح واثقا بتورط الفلول ، وقد تنتابه حمى شجاعة عارضة فيلمح إلى المجلس العسكرى والقوى الدينية الطافحة إلى السطح .. ومن ‘الاستحمار‘ الرسمى الذى يتقاطع مع ‘استحمار‘ الفريق الأول شديد الفزع والحرص والحيطة محاولة إلصاق شرف التهمة بمخربين وبلطجية وعناصر مندسة أو منفلتة ثوريا تحتاج للتأديب والتهذيب والإصلاح على الطريقة الأمنية التى لم تتغير بيان الداخلية لخص الموقف بفقرات حاسمة وواضحة ، وترجمته قرارات حكومية تم صياغتها من خلاصة إملاءات المجلس العسكرى !! بل وبكل الفجاجة لا مانع من المساومة بالملف الأمنى والاستقرار ‘الداخلى‘ فى مقابل إعلان العداء للقوى الثورية ولهؤلاء المُصرين على الاستمرار فى أعمالهم الاحتجاجية ، أو على الأقل الصمت إزاء ما تم إعلانة من نوايا لتشديد القبضة الأمنية والاستمرار فى محاكمة النشطاء عسكريا وتشديد تطبيق قانون تجريم الاعتصامات والإضرابات العُمالية .. كما أنه من ‘الاستحمار الثورى‘ الذى يتقاطع واستحمار الفريق الثانى العاقل المحاولات المستميتة لبعض القوى الثورية النوعية النفى المطلق أولا لمشاركتها فى عملية اقتحام السفارة ، ثم التلميح ثانيا لتواطؤ الجيش والأمن بإفساحهم الطريق أمام الشباب المتحمس للصعود إلى مقر السفارة كجزء من مُؤامرة لتشويه الثورة ، ثم الوصول فى بعض المراحل لحد الاستنكار والإدانة !! هو نفسه الاستحمار الذى يدفع فى غمار الدفاع المستميت عن النفس للنفى المطلق بأنه يوجد بالفعل بين الثوار تجمعات يقودها الحماس وليس الميل إلى العنف أو الفوضى والتخريب ، وقوى أخرى غير منظمة بما يكفى تمارس العمل الثورى لأول مرة .. فضلا عن جماهير تظل مؤمنة بالفعل الثورى وقدرته على انتزاع الحقوق حتى مع عدم مشاركة أغلبيتها منذ تمكنت من كسر رؤوس النظام وعصاه الأمنية القمعية .. كُتل جماهيرية يحركها نحو السفارة العداء الغريزى للإسرائيليين ، ورفض اتفاقيات الصلح المهينة ، واختلال ميزان أقوات أيامها بسبب اتفاقيات بيع الغاز الرخيص للكيان العبرى .. فضلا عن الاحتقان العام بقضية استشهاد الجنود المصريين على الحدود دون ردّ على مستوى الحدث .. كما يحركها نحو سفارة آل سعود رفض إذلال المصريين العاملين والمعتمرين على أرض العربية السعودية ، فضلا عن المواقف الضاغطة على الثورة المصرية نفسها .. ما حركها نحو سفارة آل سعود هو نفسه ما يمكن أن يحركها نحو سفارة الكويت .. ويحركها نحو مديرية الأمن ما حركها أصلا يوم 25 يناير من رفض للمهانة وإهدار الكرامة وإصرار الأمن على نفس العقيدة القمعية السابقة .. ومن ‘الاستحمار‘ الإعلامى الذى ظل حتى المساء المتأخر يحرض ضد المتظاهرين ويحشد طاقاته للتسفيه والتقليل من شأن حدث جمعة تصحيح المسار حتى طار أول خبر عن هدم جزئى لجدار السفارة العازل ليصاب بالمزيد من الارتباك !! من جملة هذا ‘الاستحمار‘ الذى يتقاطع و‘استحمار‘ الفريق الثالث الذكى المُمسك بالعصا من المنتصف ، عمليات الدغدغة المستمرة والاستحلاب لمشاعر ندم القوى الثورية بتضخيم نجاح ‘جمعة تصحيح المسار‘ فى تحقيق أهدافها ، والتفانى فى شرعنة مطالبها وإعلان التأييد المطلق لها .. ولكن على شرط لم يتحقق للأسف بما ارتكبه الثوار بعدها من خطايا أحداث العنف والتى كان محورها اقتحام السفارة الصهيونية والاعتداء على مديرية الأمن وسفارة آل سعود .. ومع ليونة قوى سياسية وثورية عدة ، تطور الخطاب الإعلامى إلى صراخ نهائى يحمل سؤالا واحدا هو ‘‘ماذا أصاب الثوار ؟!‘‘ كبديل ربما يذكرنا بالسؤال الإعلامى الشهير يوم موقعة الجمل ‘‘أنتم مين يا ولاد ياللى فى ميدان التحرير ؟!‘‘ وكأن المطلوب من القوى الثورية إجابة فورية وعملية بالدخول فعليا فى اللعبة السياسية وإنهاء أو تعليق الأعمال الاحتجاجية والالتزام بالترتيب الزمنى لأولويات المعارك حتى لو كان قفزا على قضية الحريات ، وعلى قضية العدالة الاجتماعية الأهم فى أهداف الثورة بل وعلى القضية السياسية نفسها !! وينسى الطرفان أن الدخول فى العملية السياسية وفق ملامحها وخطوطها الرئيسية وقنواتها التى استفرد المجلس العسكرى حتى الآن بتشريعها وصياغتها وتقنينها على غير موافقة أو إجماع من الغالبية العظمى للقوى السياسية نفسها ربما يكون أو هو بالفعل إجهاض وتصفية نهائية للثورة ومكتسباتها حتى يتمكن من إعادة إنتاج النظام القديم بالمجلس النيابى والدستور والرئيس الذى يرضى عنه ويتوافق عليه والقوى السياسية والدينية المستفيدة .. وينسى الجميع أنه ورغم سيادة حالة ‘الاستحمار‘ فلن يخطىء محلل سياسى أو حتى مواطن مصرى واحد فى تقدير الحجم الحقيقى للكتل السياسية والدينية القديمة أو تلك التى أُعيد إنتاجها فى مستقبل العملية السياسية إذا ما بدأت فعليا الآن ، كما لن يخطىء فى وسائل وأساليب كل كتلة لتحقيق مصلحتها وهدفها السياسى .. كما أنه لا يُخطىء أبدا وهذا هو الأهم فى إدراك نوايا وحقيقة انحياز كل كتلة على حدة مهما تشابهت شعاراتها لقضاياه المعيشية والاجتماعية وكرامته الوطنية فضلا عن حريته .. لنكتشف جميعا صلابة الحكمة المصرية الخالدة بأن ‘‘من يستحمر ، فإنه يستحمر نفسه فى النهاية‘‘ لأنه سيكون كمن يجتهد فى الوصول بمصر وباكستان لمعاهدة سلام تنهى الصراع على اقتسام بيضة الديك على الحدود بين البلدين .. [email protected]