استقالة الوفد التفاوضي الفلسطيني هي تعبير عن الأزمة التي وصلت إليها مفاوضات السلطة مع العدو الصهيوني. فما يقارب العشرين جلسة منذ 30 يوليو الماضي غاصت في الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية,فالعدو الصهيوني يعرف كيف يدير المفاوضات لصالحه ,ويتقن ممارسة الابتزاز على الفلسطينيين!كيف لا؟ وقد جاءوا إلى المفاوضات دون وقف استيطانه ,وقد ارتفعت وتائره بعد بدء المفاوضات, التي وفقاً للأجندة الأمريكية ستظل تسعة أشهر وتنتهي في مايو المقبل.لقد أقرت الحكومة الإسرائيلية التوسع في المستوطنات ببناء 20 ألف وحدة استيطانية جديدة فيها.قرار ننتنياهو على ضوء ردود الفعل الفلسطينية والدولية بتجميد القرار مؤقتاً, لا يعني العدول عنه وإنما انتظاراً لكي تهدأ العاصفة, وتعود المفاوضات إلى مجاريها وكأن شيئاً لك يكن!. القضية لا تكمن في استقالة الوفد التفاوضي: لأن أعضاءه وإذا ما أصروا على مواقفهم ,فيمكن للرئيس عباس استبدالهم بوفد جديد،هذا إذا قبل استقالاتهم،ونشك في ذلك؟فرئيس الوفد صائب عريقات هو صاحب مقولة"الحياة مفاوضات"!بل تكمن في خيار المفاوضات من الأساس, فهو قد جاء عامّاً ومطاطياً, ولم يقم على أساس قبول إسرائيل بالحقوق الوطنية الفلسطينية في العودة, وتقرير المصير, وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.مبدأ المفاوضات لم يستند إلى قرارات الأممالمتحدة بهذا الشأن. ولم يقم على وقف الاستيطان, والاستناد إلى حدود عام 1967, والتفاوض على القضايا الأساسية المتعلقة بجوهر الحقوق الفلسطينية.للأسف تنازل المفاوض الفلسطيني ,تدريجياً إلى أن وصل الأمر بتحكم إسرائيلي مطلق في أجندة المفاوضات وتسييرها, باتجاه الرياح التي لا يريدها المفاوض الفلسطيني, الذي قبل بممارسة الضغوطات الأمريكية عليه.الأهم من كل ما سبق هو:أن السلطة الفلسطينية حددت خيارها الرئيسي والأساسي بالمفاوضات فقط،وهذا خطأ استراتيجي يُفقد الجانب الفلسطيني كثيراً من أوراق القوة , التي يستطيع التأثير بها.السلطة الفلسطينية لا تتعلم من تجاربها للأسف،ولم تُأخذ بتجارب حركات التحرر الوطني على صعيد آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية, والأدق أنها لا تريد أن تأخذ هذه الدورس بعين الاعتبار.عباس يعتبر المقاومة"إرهاباً"أو"عنفاً غير مشروع"،حتى الانتفاضة لا يريدها باعتبار ما تستعمله من حجارة"عنفاً غير مبرر".هو يريد مقاومة شعبية سلبية على غرار المهاتماغاندي ومقاومته العصيانية في الهند ضد الاحتلال البريطاني, ناسياً أو متناسياً الفروقات الكبيرة بين طبيعة كل عدو منهما،فإذا كان البريطانيون احتلوا الهند ليرحلوا فيما بعد, فإن الصهاينة جاءوا ليستقروا في فلسطين وليقتلعوا شعبها من أرضه.ثم طبيعة اختلاف فهم العنف لكل من الاحتلال البريطاني والطبيعة الصهيونية, والأخيرة لا حدود لفاشيتها ,فقد تفوقت في جرائمها وفي عنصريتها ومذابحها على النازية.لم يدرك عباس وهذه مصيبة(وإن كات يدرك فالمصيبة أعظم)طبيعة العدو الصهيوني ,والحدود التي يمكنه الوصول إليها في أية تسوية مع الفلسطينيين أو مع العرب. اعتقد المرحوم ياسر عرفات: أنه بتوقيعه لاتفاق أوسلو المشؤوم, سيطرق باب دخول الدولة الفلسطينية التي سيقيمها في القريب العاجل.لم يدرك الأهداف الأسرائيلية من قبول تجميع المقاتلين الفلسطينيين في بقعة جغرافية محدودة, للحد من حركتهم كثوار ومقاتلين ضد العدو!.للأسف أيضاً لم يدرك محمود عباس ولا حتى القائميين على السلطة في غزة:أن الانقسام الفلسطيني يفجّر الوحدة الوطنية الفلسطينية ,وهذه تعتبر العمود الأبرز في مقاومة العدو ,ومجابهة مخططاته, فالسلطة في رام الله تلاحق المقاومين،وكذلك السلطة في غزة بعد توقيع هدنتها غير المباشرة مع إسرائيل.الوحدة الوطنية الفلسطينية هي أحد شروط الانتصار في معركة الشعب ضد مغتصبي إرادته،وهي تشكل مركز الجذب للشعب الفلسطيني في مسيرته الثورية , من أجل نيل وإنجاز حقوقه الوطنية. بالرغم من الصورة السوداوية لوضع السلطة الفلسطينية ,فقد قبلت بالتنسيق الأمني مع العدو الصهيوني, الذي يريد السلطة في هذا الموقع.يريدها حامية لأمنه،في الاحتلال غير المباشرة للضفة وإلى حد ما في قطاع غزة.إسرائيل بقيام السلطة أزاحت عن كاهلها عبء الاحتلال المباشر للأراضي الفلسطينية بالمعنيين الاقتصادي والديموغرافي ,ولم يعد الاحتلال الإسرائيلي مشروعاً خاسراً في الضفة وفي غزة. بعد توقيع الأتفاقية المشؤومة أصبحت السلطة لجماهيرنا في الشتات عاملاً كابحاً لاندفاعاته الثورية في مقاومة محتليه .وبدلاً من أن تكون عوناً لجماهيرنا في إكمال الطريق نحو نيل الحقوق الوطنية،أصبحت عبئاً على هذه الجماهير!السلطة وبدلاً من العمل على تحرير الاقتصاد الفلسطيني ضمن الامكانيات المتاحة،ربطت هذا الاقتصاد بعجلة الاقتصاد الإسرائيلي ,وذلك وفقاً لاتفاقية باريس الاقتصادية سيئة الصيت والسمعة, والتي غضب عرفات بشأنها أشد الغضب حين عاد الوفد الفلسطيني من توقيعها.السلطة الفلسطينية نسيت أو تناست واجباتها أمام الفلسطينيين في الشتات،وذلك بإهمالها وعدم تفعيلها لمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية.هي اعتقدت أن السلطة بديلاً للمنظمة وهذا خطأ فادح اقترفته وما تزال.بالتالي قزّمت من أوراق الضغط ,التي بإمكانها التأثير على العدو الصهيوني, وإجباره عنوةً بالاعتراف بالحقوق الوطنية الفلسطينية :في العودة ,وتقرير المصير, وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس. السلطة الفلسطينية لم تقم بمراجعة شاملة لمسيرتها منذ اتفاقيات أوسلو وحتى اللحظة!استجابت للضغوط الإسرائيلية من خلال الوسيط الأمريكي ,فمثلاً عادت إلى المفاوضات في ظل الاستيطان،وقبلت بعدم الذهاب للمنظمات الدولية والتسجيل فيها،وقبلت بعدم رفع قضايا جنائية على إسرائيل في محكمة الجنايات الدولية،ذلك مقابل إطلاق سراح المعتقلين ما قبل اتفاقيات أوسلو.الإسرائيليون ما زالوا يماطلون في إطلاق سراح المتبقين منهم،فمقتل أحد الإسرائيليين في العفولة مؤخرا،حدا بالعديد من الوزراء الإسرائيليين في الائتلاف القائم إلى المناداة بعدم إطلاق سراحه المعتقلين .مع إدراكنا لأهمية المعتقلين إلا أن هناك أساليب أخرى لتحريرهم ,والدليل على صحة ما نقول هي صفقة شاليط!إسرائيل أطلقت سراح حوالي خمسين معتقلاً فلسطينياً إلا أنها اعتقلت ما يزيد عن 400 فلسطيني في ذات الفترة. السلطة الفلسطينية تناست أهمية التلاحم العضوي بين الخاص الوطني والعام القومي, فبتوقيع اتفاقيات أوسلو سلخت القضية الفلسطينية عن بعدها القومي الجماهيري العربي.الأمة العربية تقف في العادة مع القضية الفلسطينية وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر.بمواقف السلطة الفلسطينية المترددة في التسوية والمفاوضات أبعدت الجماهير العربية عن قضيتها المركزية. لذا فإن السلطة الفلسطينية اقترفت وما تزال أخطاء استراتيجية وبالضرورة فإن ذلك سينعكس أخطاءاً أكبر في التكتيكيات السياسية. نراها في حياتنا اليومية من خلال قرارات السلطة البعيدة عن الواقع ,والتي تأتي خالية من الروح الثورية اللازمة تماماً لمعركة الجماهير المغتصبة إراداتها والمحتلة أراضيها. كل الخشية من قبول فلسطيني بضغوط أمريكية تحمل في طياتها مشروعاً وسيطاً أمريكياً بين المواقف الإسرائيلية واالفلسطينية.حل يعتمد على مقترحات الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون التي طرحها في طابا في العام 2001.السلطة لم تدرك حتى اللحظة طبيعة الدور الأمريكي في المنطقة وفي الصراع الفلسطيني العربي-الصهيوني تحديداً.هي تعتقد بأن الولاياتالمتحدة وسيط نزيه في هذا الصراع.وهذا يعتبر جهلاً بالواقع, فالولاياتالمتحدة لا يمكنها إلا أن تكون إلى جانب الأطروحات الإسرائيلية.صحيح أن هناك بعض التعارضات حول هذه القضية أو تلك في بعض الأحيان , لكن ذلك لن يؤثر على الحقيقة الأكيدة وهي أن واشنطن هي الحليف الاستراتيجي للدولة الصهيونية, وهي الناقل(الأمين)للأطروحات الإسرائيلية في التسوية, وهي الضاغط الأكبر على الفلسطينيين للقبول بهذا الحل. يبقى القول:أن خيار المفاوضات مع إسرائيل هو خيار خاطئ بامتياز.يتوجب على السلطة الانسحاب نهائياً من المفاوضات فاستقالة الوفد المفاوض لا تعتبر كافية.