ظلت مستشفى العباسية للأمراض النفسية، مأوى للألم منذ نشأتها وحتى اليوم، وكأنها مقبرة كبرى دُفنت فيها آمال وأحلام الكثيرين، وانتهت صلتهم بالحياة إلى الأبد. وبمجرد تجولك داخلها تجد صور الدراما الإنسانية تصنع ملحمة من الألم الصامت بين جدران هذه المستشفى، وتصل الأحداث إلى نقطة الذروة، عندما تتصادم نظرة المجتمع بأحلام العائدين إلى الحياة، فلا المجتمع يرضاهم في نسيجه بشرًا سويًا، ولا هم يعرفون كيف يتحسسون طريقهم مرة أخرى بين الناس، ومن هذا الصراع الصامت تولد الحكايات والألم. بعد المرور من البوابة الرئيسية المتواجد عليها عددًا من أفراد الأمن، المرتدين زيًا أزرقًا طبع عليه اسم المستشفى، هنا في "السراي الصفراء"، تجد أكثر من نصف النزلاء يعانون نفس الحالة وإنكار المجتمع لهم مع اختلاف التفاصيل. تجولت "البديل" داخل مستشفى العباسية للأمراض النفسية، للتعرف على معاناة المرضى والعاملين أيضًا، لبيان أيهما يحتاج إلى تأهيل المريض؟ أم المجتمع الذي يعاقبهم على شفائهم؟ تحكي "عفاف" إحدى الممرضات، عن خجلها من العمل في هذا المكان، رغم أنها تعودت عليه، ورغم جو الألفة الذي نشأ بينها وبين النزيلات؛ والسبب هو مضايقات الجيران والأقارب بأنها تتتعامل مع "المجانين"، وتتقاضى راتبها من "السرايا الصفرا"، وهو ما يجعلها تتمنى أن تنتقل إلى مكان آخر يتقبله الجميع. وتقول أنها لا تنزل يوميًا من "الأوتوبيس" أمام المستشفى، حتى لا ينظر إليها الركاب على أنها مريضة أو جاءت لزيارة أقاربها، وتشير إلى أنها مخطأة بأن تضع "كلام الناس" نصب أعينها، ولكننا كدولة تعودنا أن نعاقب من خرج من السجن ثم تاب الله عليه، بألا نغفر له توبته، وكذلك المرضى النفسيين الذين صورتهم السينما بأنهم شئ يستحيل التعايش والتعامل معه، بعد تماثلهم للشفاء لا ينسى ذويهم بأنهم كانوا يومًا ما "مجانين". كذلك تحكي "منال القاضي"، والتي تعالج في المستشفى منذ 12 عامًا، عن حال المرضى، حيث جاءت إلى المستشفى بصحبة أخيها الذي لاحظ عليها بوادر اكتئاب، ونصحته زوجته بأن يجد لها حلًا؛ خوفًا من أن تؤذيهم، وبالفعل توجها إلى "العباسية"، وبعد الفحص تبين أنها تحتاج إلى حقنة كل شهر، ولا جدوى من إقامتها بالمستشفى، ولكن تركها أخيها ووعدها بأن يعود ويصطحبها إلى المنزل. ثم تجهش في البكاء، وتقول "عمري كله راح واتدفنت بالحيا، وأخويا مفتكرش إن ليه أخت مرمية هنا من 12 سنة"، مؤكدة أن عائلتها ثرية وقد أوصى والدها عليها قبل وفاته، ولكن ابنه لم يشغل باله بتلك الوصية وتحفظ على ميراثها، وعندما أتى مرة لزيارتها، وأبدت له رغبتها في العودة إلى المنزل، خاصةً وأن الطبيب أخبرها أنها أصبحت سوية، رفض أخوها وقام بضربها. وتابعت: "أصحابي هنا أهلهم هياخدوهم قريب وأنا هبقى لوحدي"، وأشارت إلى عدم رغبتها في شئ سوى المأوى، حتى تعيش بشكل طبيعي. أما "مجدي إبراهيم- 39 عامًا"، فدخل المستشفى منذ 5 أشهر فقط، ويرغب في العودة سريعًا إلى بلده بالدقهلية، لكن أحدًا لا يعلم على وجه اليقين متى يتماثل للشفاء، وما إذا كان يبقى راغبًا في الخروج أم يغير رأيه، أو ربما يظل راغبًا ويرفض أهله، فهو يقول إن والده وأخيه تعاونا في تعذيبه، لدرجة أنهما كانا يقيداه بالحبال ويفتحان أنبوبة البوتاجاز ويضعان الخرطوم في فمه؛ ليتخلصا منه حتى يتسنى لهما الاستيلاء على أرضه. ويضيف أنه فلاح ويمتلك أرضًا زراعية كبيرة، ويريد أن يرجع لها ويباشر عمله، ويبعد عن أهله تمامًا حتى لا يعودا ويعذاباه كما فعلا بالسابق، وأكد أنه لن يبلغ عنهم ولن يؤذيهم، قائلًا: "ربنا موجود وهياخدلي تاري منهم". فيما قالت الدكتورة حنان غديري، رئيس وحدة التأهيل بمستشفى العباسية، ورئيس إدارة طب المجتمع بالأمانة العامة للصحة النفسية، إن التأهيل لازم للطرفين، فهناك جانب نفسي واجتماعي وراء المرض النفسي، ودور الوحدة هو إعادة تأهيل المريض للاندماج مرة أخرى في المجتمع، حتى لا يتحول إلى عالة على الآخرين، ومساعدته ليتعلم كيف يخدم نفسه ويكسب قوته ويتعايش مع الناس. وأضافت: أما المجتمع سواء في مصر أو حتى أمريكا وأوروبا يعاني مشكلة كبيرة إزاء المرضى النفسيين، فلا يتقبلهم بسهولة ويسعى إلى التخلص منهم، ولابد من توعية المجتمع إعلاميًا لتغيير مفاهيمه الخاطئة، فتجربة المرض النفسي قاسية جدًا، ومسئولية المجتمع التعرف على نقاط ضعف المريض والمساهمة في تقويتها ومساعدته على القيام بعمل نافع يمنحه الثقة في قدراته ويشعره بقيمته بين الناس. وأشارت إلى نوعية الأمراض التي تؤدي إلى الدخول للمستشفى، وأن معظمها اضطراب وجداني ومرض الفصام وهي تقع في الفئة العمرية من 20 إلى 40 سنة، ومرض التوحد وفيه يظن المريض ان الناس تضطهده أو تسعي لايذائه واحيانا يعتقد انه المهدي المنتظر،وعادة لا يعترف المريض بمعاناته ولا تعترف الاسرة بالمرض وهو ما يحدث عادة في كل طبقات المجتمع.