أدخلوني غرفة حالكة الظلام، معصوب العينين ولا شعاع نور واحد يتسرب إلى عينيّ، أجلسوني عمداً على كرسي بالكاد يناسب حجمي لإيذائي وأوثقوا ذراعي بمسنديه وربطوا قدمي جيداً في أرجله ولم تعد لي حرية إلا داخل رأسي واللهم إلا حركة خفيفة لأطراف أصابعي، عرفت فيما بعد لما هذه الحركة. أغلقوا الباب بعدما قيدوني وتركوني وحدي، ولم أكد استقر في مقعدي وأحاول التعرف على المكان حتى وجدت شيئا يعبث بأطراف أصابعي وخنصر اليد اليسرى، في البداية أحسست بالاشمئزاز، وخفت أن يكون صرصور-كم أمقته فهو يصيبنى بالغثيان- وتكون الغرفة ملأى بالحشرات وأُصبح فريسةٌ للجرذان والزواحف. ولكن قلبي هدأ حين سمعت.. - أنت جديد هنا، ما تخافش أنا ندى.. أنت مش لوحدك. جديد هنا.. أين أنا؟! وددت لو بإمكاني سؤالها ولكن هذه الكمامة على فمي وأدت حلمي مبكراً بالمؤانسة التي فرحت بها. تسود فترة صمت، أحاول فيها أن أتلمس طريقي ليدها وأحرك أطراف أصابعي في كل إتجاه، وأخيراً يلامس خنصر يدي اليسرى إصبع من أصابعها، فتنتبه إليّ ويداعب إصبعي إصبعها فتحدثني قائلة.. - آه أنت لسه متكمم، ما تخافش بكرة تتعود. وتبدأ بيننا حكاية من العدم، وحدنا في الغرفة ولا مؤنسٌ لنا سوانا، تلامس الأصابع يدفع عني القلق والخوف ويُزيل بعضاً من الرهبة ويُنسينى ما أنا فيه ويكفيني أني أسمع صوتها.. - كويس إن أنت هنا، ما بحبش أبقى لوحدي. بدأت الألْفَةُ تحُل بيني وبينها وبين المكان! يدخلون إلينا بالطعام مرتين في أول النهار وآخره. يفكون قيد اليدين وكمامة الفم ويقفون بجوارنا حتى نفرغ من الأكل، وهناك تعلميات صارمة بألا نتخاطب وألا يصدر من أحدنا صوت ولو هيّن. ورغم ذلك حاولت وقلت لها.. - وأنا كمان مبسوط إنكِ هنا. فكان عقابي الحرمان من وجبتيّ اليوم التالي ومنعي من قضاء حاجتي والتحذير الشديد من عواقب تكرار هذا الأمر. ***** - أخذوا مني مصطفي أول ما اتعودت عليه، كنت أحبه قوي. وأول ما قدرت أصارحه راح مني. حكاية مصطفي كانت أكثر حكاياتها التي تسردها عليّ في الفترة الأولى، وعندما تستفيض في الحكي عنه كنت أشعر بالأسى لها وأحاول التخفيف عنها بملامستي لأصابعها وكانت هذه حيلتي الوحيدة في مواساتها، كانت تحكي أيضا كيف وصلت لهذا المكان وذكريات طفولتها وأيام حياتها السابقة وكيف حاولت الانتحار حين وصلت هنا بخنق نفسها وكتم أنفاسها ولكنها اكتشفت عبث ذلك، فكلما وصلت للحظاتها الحرجة لا تستطيع كتم أنفاسها فترة أطول ورغماً عنها تشهق وتتنفس من جديد. ولم تتخلى عن محاولاتها سوى في اليوم الذي جاءوا فيه بمصطفي. كان يجلس في نفس مكاني على الكرسي الذي بجوارها وصار هو متنفسها الوحيد، يقص لها الحكايات ويؤمن باليوم الذي فيه الخلاص. متفائل، وكثيراً ما يلقي عليها النكات من أجل إسعادها.. -أنا كنت زيك كدة ساعتها ما بتكلمش، كنت بحب أسمعه قوي. لو تدري هي الآن كم أحب حكاياتها فهي كل ما لدي وكل ما أملك. كانت تحدثني في البداية ربما لتسلي نفسها أو لتكسر حاجز الزمن ووحشة المكان، ولكنها الآن ترتاح لوجودي وأنا أيضا مثلها، ويزداد الشوق بداخلي إليها مؤكداً ليّ الرغبة بداخلها ويُطرب قلبي. أخذت الأيام تمر وقلت أحاديثها عن مصطفي، وبدأت بيننا مرحلة جديدة، ترسمني في خيالها ولو صحت خيالاتها حيال أمر من الأمور كنت أضغط على إصبعها موافقاً على ما تقول. تخبرني أن لكل وقت آذان وأن موعدنا سيحين يوماً لنكون معاً وعندما لا ترى مني إستجابة كانت تُلقي عليّ ببعض النكات لتُسري عن روحي قليلاً. أعتاد عليها أكثر، وأتمنى لو يمكنني أن أصل لأبعد من لمس أصابعها، سأحاول غداً في موعد الطعام. سأمسك يدها، لا بل سأتحسس وجهها. أريد أن أحس كم هي جميلة، كم اشتاق لذلك. أصوات أقدام تتحرك نحو الباب في موعد الطعام المعتاد، إنها لحظتي، قد حانت. يفتحون الباب ويقترب أحدهم مني ويفك قيودي، يُقدم لي وجبة أول النهار. افتعل الانهماك في الأكل وفي لحظة خاطفة أمُد يدي نحوها ولكن عصا غليظة تسبق يدي لتُعيدها مكانها. عندما ننتهي ويخرجون، تسألني عما فعلت وعن التأوه المكتوم الذي صدر مني. أتمنى لو أخبرها، لكني أكتفي بمداعبة أصابعها بأصابع يدي المتورمة من إثر الضربة، أتمنى أيضا لو أسألها كيف سمحوا لها بالكلام، ولم الاستثناء في حالتها الآن وفي حالة مصطفي سابقاً، ولكني لا أستطيع، وتذكرت قولها لي ذات مرة.. -بعد فترة ه تعرف تتكلم زيي، بس لازم تحاول بنفسك!. لا أدري هل مر شهران.. ثلاثة.. أو أكثر. أشعر بالتعب الشديد من محاولة أمس وأسعل بشدة ويسيل لعابي في الكمامة فيجعلها لزجة وأكثر رطوبة ولم تعد محكمة على فمي كما بالسابق، وبدأت أفطن كيف تتكلم ندى وصرت أعمل جاهداً على استخدام لساني ولعابي بصورة أفضل بدلاً من أن ابتلعه في كل مرة، وشوقي إليها يحثني على المزيد من الجهد كي أكلمها وأبلغها بكل الحنين بداخلي إليها وأصارحها بكل ما يحترق به قلبي، أرُكز طاقتي في الأوقات التي تنام هي فيها أو تسكت عن الكلام، أعمل بلا كلل في تحريك عضلات فكي وفمي ودفع الكمامة لأعلى وأسفل والتحكم فيها قليلاً. واكتملت الخطة في رأسي. جاءت وجبة أول الليل، وبعد أن أنهيت طعامي تركت بعض الماء في جوفي وهم يكمموني وعندما خرجوا لفظته على الكمامة، فلحسن حظي اعتادوا أن يكمموني بذات الطريقة كل يوم ويتركون الجزء المهترء من الكمامة من أثر صراعي معه عند موضع فمي، والماء يجعله سهلاً. ولعدة أيام أقوم بذلك بلا استسلام حتى استطعت بدفع من لساني أن أزيحها لأعلى وصرخت فرحاً.. - ندى.. نفسي أشوفك.. أنا بحبك. = وأنا كمان بحبك جداً - ه أعرف أشوفك إزاي بره؟. = ه أقابلك فين؟. وسمعت صوت أقدام كثيرة تتجه نحو الغرفة ويُفتح الباب وسرت في المكان حركة سريعة ومفاجئة و وقيود تُحل وأسمع صرخة مكتومة من ندى وصوت جرجرتها على الأرض إلى للخارج.. - ندى.. سيبوها.. سيبوها يا ولاد الكلب. ***** مرت أيام كثيرة أو أسابيع -لم أعد أحسبها ولا أهتم- وأنا وحدي أفكر في خطئي الذي كلفني ندى وفي وحدتي التي أصابتني بعد أن أخذوها. قبيل موعد وجبة أول النهار بقليل، وعلى غير العادة أسمع خطوات تتجه نحو الغرفة ويُفتح الباب وقيود جديدة تُربط ويبدو أن هناك ضيف جديد حل على المكان، بعدما انصرفوا أمُد أصابعي لأتعرف إلى هذا الوافد الجديد فيفزع؛ من ملمسه أدركت أنها أنثي فملمسها رقيقٌ وأطراف أصابعها ناعمة و.. - ما تخافيش أنا كريم، أنتِ مش لوحدك هنا. ***