قال محمد محسن لأصدقائه عندما هاجمهم البلطجية في العباسية:”هو فيه أحسن من دي موتة”. هذه الجملة تلخص شخصية الشهيد، إنسان يؤمن بالوطن والحرية والمعاني الإنسانية، وتهون حياته في سبيل ما يؤمن به. لم أعرفه شخصياً، لكنني أعرف جيداً لون الدم الذي رأيته يوم 28 يناير في ميدان المطرية، ورأيته بعد ذلك في التحرير، ولا أعتقد أن هناك فرق بين الدم في موقعة الجمل، والدم في موقعة العباسية، فالدم كله في الثورة المصرية للشباب الفقراء وأصحاب الضمائر والهموم الإنسانية، غير أننا بدأنا القصاص للدم الأول، وما زالت أمامنا نضالات كي نقتص للدم الثاني. وأذكر العسكر الحاكمين للبلاد الآن، بالدم الذي سال في 9 مارس، وبالسيدة التي دهستها المدرعة في اعتصام العمال بالسويس، وبالشهيدة مريم عبد الغفار، وبأنه بعد ستة أشهر من تنحي مبارك، ما زال الفقراء ينتحرون بسبب ضيق العيش، وأن أجهزة النظام ما زالت تقبض على المطالبين بحقوقهم بدعوى أنها مطالبات فئوية تعطل عجلة الإنتاج الصدئة، والتي ما ثار الشعب إلا لأنها تسير على جثث الفقراء، وبأن صبر الشعب له حدود، وبأنه يجب على المجلس العسكري أن يفكر بطريقة مختلفة قبل فوات الأوان، وبأن الشعب الذي أجبر جزءاً من النظام على البدء في محاكمة الجزء الآخر، قادر على محاكمة كل النظام بنفسه ذات يوم، وأن كل شيء له أوان. تخبرنا صور محمد محسن الملتقطة له في المظاهرات أشياء كثيرة عن هذا الجيل، دققوا في صوره جيداً، ففيها من المعاني ما يستعصي على الكلمات، ويقول أصدقاؤه إن محمد محسن طالب في أحد المعاهد الصناعية بالصعيد، لم يتجاوز عامه الثالث والعشرين، وإنه كان يعمل في الصيف ليدبر مصروفات الدراسة، وإنه رغم ذلك حرص على المشاركة منذ 25 يناير وحتى معركة العباسية، عندما سقط على رأسه حجر كبير، حاول أصدقاؤه الخروج به من المصيدة التي أقيمت بتخطيط من المجلس العسكري، لكن الشرطة العسكرية رفضت السماح لهم بذلك، وبعد ساعات استطاعوا إخراجه من الكماشة، لترفض المستشفيات استقباله، وعندما استقبله معهد ناصر بعد ساعات من النزف المتصل، وتم شفط التجمع الدموي من رأسه، راح في غيبوبة، ثم توفى مساء أمس، وكأن روحه ظلت تقاوم الموت، حتى تطمئن إلى تنفيذ أحد إنجازات اعتصامه في التحرير منذ 8 يولية، بأن يوضع قتلة الشهداء في القفص، ويحاكمون أمام قاض يثق المصريون في نزاهته. كانت القبائل البدائية تعبد أرواح شهداءها، شعوراً منهم بتفوق هؤلاء الشهداء من حيث الشجاعة والنبل، بينما تهين الثورة المضادة ذكراهم وأهاليهم، أما هذا الجيل فيبدو أن هناك اتفاق ضمني على تقليد الشهداء، واتخاذهم مثلاً عليا، وفي الثورة يكون الشباب هم المثل والقدوة وليس الساسة العجائز والشيوخ المضللين، الذين أدمنوا الحلول الوسط والمواقف الوسط، ويحسنون جمع الغنائم وسط المعركة. اقتدى محمد محسن وغيره من الشهداء بعد التنحي بالشباب الشهداء قبل التنحي، وهناك شباب آخرون يقتدون بمحمد محسن، وهكذا جيل فدائي، يفكر على عكس طريقة تفكير عملاء الخليج قبلة الرجعيين في المنطقة العربية، ولسان حاله يقول مع محمد محسن”هو فيه أحسن من دي موتة”، ليضع هذا الجيل حداً للحزن بسبب الموت، ويحول الاستشهاد إلى عرس للكرامة والحرية والإيمان والفداء. ليست معركة العباسية أول المعارك، بل إن معارك 25 و28 يناير لم تكن أولها، إنها معارك ممتدة بين الثوريين من جهة والنظام والمطبلين له والمستفيدين منه من جهة ثانية، وغداً معارك أخرى ودماء أخرى وهزائم أخرى للثورة المضادة ومطالب أخرى يحققها الشعب، لكن كل شيء له أوان.