تبدو اللحظة الراهنة تاريخية حقاً لو أرادت مصر أن تستأنف زعامتها للعالم العربي، كما تشي دلائل قوية بعيد الإطاحة الشعبية بحكم الرئيس السابق محمد مرسي. فالعودة إلى الفترة الناصرية تتم بصورة كثيفة في وسائل الإعلام المناهضة للنظام السابق، إلى حد وصف الجنرال عبدالفتاح السيسي ب"ناصر القرن الواحد والعشرين" والتلويح في وسائل الإعلام بالصراع بين عبد الناصر والإخوان المسلمين في خمسينات وستينات القرن الماضي، والتذكير بأن مصير "الإخوان" اليوم سيكون شبيهاً بماضيهم القريب، فضلاً عن النزعة المصرية الوطنية الحادة ضد الولاياتالمتحدةالأمريكية والمطالبة بالتخلي عن المعونة السنوية المقدرة بنحو ملياري دولار، بموازاة النقد الشديد للموقف الأمريكي المؤيد للإخوان المسلمين والرفض الشعبي لتعيين السفير روبيرت فورد ممثلاً لبلاده في القاهرة، خوفاً من أن يثير الفتن كما فعل في مناطق عربية أخرى. ومن بين المؤشرات الأخرى عودة مصر إلى المطالبة بحل مشكلات كانت كفت عن الحديث عنها منذ أواسط السبعينات، ومن بينها خلو الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، ولعل زيارة وزير الخارجية نبيل فهمي إلى موسكو غداة الاتفاق الروسي الأمريكي حول الأسلحة الكيماوية السورية تصب في هذا الاتجاه، ويلاحظ في المؤتمر الصحفي الثنائي، الإشارة إلى هذا الموضوع ومواضيع أخرى على رأسها القضية الفلسطينية. يبقى المؤشر الأكبر وهو التواصل المصري الروسي المكثف منذ إطاحة حكومة الرئيس مرسي، وقد سمعنا في المؤتر الصحفي المشترك كلاماً كبيراً حول ما يأمله المصريون من العلاقات مع روسيا، إذ أكد نبيل فهمي "..نحن ندعو الروس إلى الحضور عندنا في البحر الأحمر ونأمل أن يتكثف التعاون بيننا، وسنذكّر روسيا دائماً بهذا الأمر، وإن نسيت سنتصل مراراً بالمسؤولين الروس لتذكيرهم بذلك". ومن نافل القول أن إلحاحاً من هذا النوع في الاتصالات المصرية الروسية لم يطرأ منذ طرد الخبراء السوفييت من مصر في سبعينات القرن الماضي. لا أعرف إن كانت هذه المؤشرات وغيرها تتزامن مع التوقعات الدولية بانسحاب الولاياتالمتحدة من الشرق الأوسط واعتمادها المرتقب على قوى اقليمية مستقرة لتوفير الأمن والاستقرار في هذه المنطقة، وليس بينها أية قوة عربية، والمقصود بذلك تركيا و"إسرائيل"، الأمر الذي حمل مصر على التحرك من أجل استعادة دورها المركزي في العالم العربي. والواضح تماماً أن النظام المصري الجديد ما عاد واثقاً بأن المصالح المصرية تتأمن من خلال علاقات التبعية مع الولاياتالمتحدة و"إسرائيل"، ولعل واحداً من الأسباب التي تقف وراء إطاحة مرسي هو أنه كان يريد لهذه العلاقات الأحادية أن تستمر بشروطها السابقة معتقداً أن أمريكا مازالت تحتفظ ب99 في المئة من أوراق السياسة الإقليمية والعالمية، وأن الروس وغيرهم لا يحسمون الشيء الكثير في العلاقات الدولية. كائناً ما كان التقدير المصري للحظة الراهنة فهي تاريخية ومناسبة حقاً لانعطافة جديرة في سياسة مصر الخارجية، للأسباب التالية: * أولاً: لأن الانسحاب الأمريكي من الشرق الاوسط سيترك فراغاً تعبئه إيران وتركيا و"إسرائيل" بالضرورة، ما لم تتقدم دولة عربية إلى صدارة المسرح دفاعاً عن مصالح العرب. * ثانياً: لأن العالم العربي يعيش خراباً كبيراً ويخلو بالتالي مع الدول العربية المنافسة لمصر لاسيما العراق وسوريا التي ستنصرف لشؤونها الداخلية أقله خلال عقدين من الزمن. وفي السياق يمكن لمصر العودة إلى الملعب الفلسطيني وهو الممر الإجباري لدور مركزي عربي، والعودة المصرية ليست مستحيلة، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار قدرة مصر على تعديل اتفاقية كامب ديفيد التي حيدتها عن القضية وسمحت ل"تل أبيب" بالتصرف في هذا الملعب من دون منافسة تذكر * ثالثاً: يمكن لمصر أن تلعب دوراً قوياً في اللجنة الرباعية لحل القضية السورية بوصفها ركناً أساسياً في هذه اللجنة، وهو دور أهملته حكومة محمد مرسي جراء اندفاعها الفئوي وتبعيتها لحكومة أردوغان الإخوانية. * رابعاً: يمكن لمصر أن تراهن على علاقات قوية مع تركيا بعد التغيير المنتظر في تركيا في انتخابات العام المقبل، وبما أن إيران تسعى لاستئناف العلاقات مع القاهرة منذ زمن طويل، فإن علاقات مصرية طبيعية مع البلدين يمكن أن تجعلها ممراً أساسياً لكل دور مقبل لهما ولغيرهما في العالم العربي. * خامساً: تشكو مصر من ضعف الوسائل الاقتصادية التي تتناسب مع الدور المركزي المنشود، فضلاً عن حاجتها للاستقرار الداخلي، وهو شرط حاسم لأي دور خارجي ناجح، والراهن أن استجداء المساعدات الأجنبية لن يوفر الحل ليس فقط للدور الخارجي، وإنما للمشكلات المصرية الملحة أيضاً. والظن الغالب أن هذه الوسائل تأتي بقدر الإقدام المصري والشجاعة المصرية في استئناف دور البلاد المركزي في العالم العربي، هذا الدور الذي تتطلع إليه شعوب المنطقة من المحيط إلى الخليج بفارغ الصبر. * سادساً: ربما على الجنرال السيسي أن يدرس جيداً عناصر قوة الحكم الناصري في القرن الماضي، وأبرزها في اعتقادي تمكنه من المناورة بنجاح بين القطبين الدوليين وبالتالي توفير الاستقلال لبلاده عبر هذا المنهج الذي دمره أنور السادات بعد حرب أكتوبر عام 1973 . ومن حسن حظ السيسي أن الثنائية القطبية عادت إلى ساحة الشرق الأوسط ليس من الباب الأيديولوجي وانما بسبب هزيمة واشنطن في العراق وأفغانستان، واضطرارها للانسحاب من هذه المنطقة وحاجتها إلى شريك دولي لإدارة شؤونها، الأمر الذي يوفر هامشاً واسعاً للمناورة للقوى الإقليمية، تماماً كما كانت الحال في الفترة الناصرية. بكلام آخر يمكن القول إن لحظة تاريخية حاسمة تنتظر إقدام القاهرة ومبادرتها على التقاط زعامة العالم العربي من الأرض.