إن مظاهر الظلم والاستبداد السياسي كانت أهم معاول هدم الأنظمة واضمحلال الحضارات منذ الأزل وستبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولعل من أكبر الشواهد على ما ذهبنا إليه أن ثورات الربيع العربي التي تجري اليوم لم يبعثها الإ فساد الأنظمة وظلم الحكام والاستبداد السياسي والفساد الحاصل للحياة السياسية.ومخالفة المبادئ التىأرسئ دعائمها الإسلام وطبقها في غير أبهام النبي الكريم صلى الله عليه وسلم خلفائه الرشدين والتي تؤدى حتماً إلى مواجهة أي محاولة للفساد في أي صورة له، ولذلك أوجب الإسلام مكافحة الاستبداد الذي يؤدى حتماً الى إفساد الحياة السياسية. والعقيدة الإسلامية لا تقبل الاستبداد والطغيان بكل أنواعه وتوجب المواجهة لهذا الاستبداد والطغيان تطبيقاً لرسالة الإسلام التي جاءت لتصلح أحوال البشر وتقضي علي الفساد وتسد أبوابه فهي تنظم علاقات الناس بعضهم البعض بالصورة التي لا يطغي أحد علي أحد فيها.ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(إنه لا يبقى مع الفساد شيء،ولا يقل مع الإصلاح شيء .وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:(ولم يكن الفساد سلّما إلى صلاح قط ).فان الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها,وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان).بل ( إن النبي حرم أشياء مما يخفى فيها الفساد؛لإفضائها إلى الفساد المحقق )ولذلك تحققت العدالة ولم يجد الفساد الأرض التي ينبت فيها فاستقامت الحياة السياسية وكانت مواجهه اى محاولة للفساد على ضوء هذه المبادى دون النظر إلى شخص مرتكبها حتى ولو كان الحاكم, فلا حصانة لحاكم في الإسلام تمنعه من المسائلة . فلم تكن أحكام الإسلام مواعظ وعبارات وأقوال نظرية فحسب بل أنها أحكام عملية تلامس الواقع, لذا حرمت الشريعة الإسلامية كل صور الفساد أياً كان المسئول عنه, وفرضت الحدود ووضعت التعازير لمن تسول له نفسه القيام بذلك.ولتأكيد ذلك ربط الإسلام بين الإيمان والأمانة ربطاً عضوياً تأكيداً لأهميتها فقال الرسول صلى الله عليه وسلم (لا إيمان لمن لا أمانة له).. ونهى الإسلام من إسناد الولايات العامة لغير الصالحين والأكفاء حتى لا تجنح عن جادة الأحكام الشرعية والفضائل المرعية وتستخدم للابتزاز والأغراض والمصالح الشخصية ويؤكد المعنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم (إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة.. قال: كيف إضاعتها يا رسول الله قال: إذا أسند الأمر لغير أهله فأنتظر الساعة) وأشار النبي أن من علامة حلول الدمار بأمته أن تصير الأمانة أي السلطة مغنماً والزكاة مغرماً وأن يخرج الرجل من رعاع الناس فيقوم على أشرافهم ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم (ماوالٍ يلي شيئاً من أمور المسلمين فيولي رجلاً وهو يجد من هو أصلح منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين). وقد طبقت القواعد الأساسية التى صاغها الإسلام على تصرفات الحاكم قبل المحكومين والولاة قبل الرعية دون تمايز واتضحت هذه المفاهيم جلية فى عهد الفاروق رضى الله عنه عندما توسعت الدولة الإسلامية فطبق رضوان الله عليه القواعد التى سبق إرسائها والتى تكفل استقامة الحياة السياسية وتحقق الحكم الرشيد التى لا حصانة ولا تمايز لحاكم فيه وواجهه الفساد أى كان مصدره وأشرف بنفسة على التطبيق. فلقد كتب عمر بن الخطاب إلي عامله علي الكوفة أبي موسي الأشعري يقول: قد بلغ أمير المؤمنين أنه فشا لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك, ليس للمسلمين مثلها, فإياك يا عبدالله أن تكون مثل البهيمة التي مرت بواد خصب فلم يكن لها هم إلا السمن, وإنما حتفها في السمن. واعلم أن للعامل مردا إلي الله,فإذا زاغ العامل زاغت رعيته,وإن أشقي الناس من شقيت به رعيته. وكان رضى الله من أشد الناس حرصا علي رضاء الله سبحانه وتعالي وتنفيذا لشرعه والتزاما بأمانة الحكم, وعلي الرغم أن من حق الحاكم باعتباره موظفا في الدولة أن يحصل مقابل عمله في خدمة المسلمين علي راتب معين, إلا أن عمر بن الخطاب فرض علي نفسه ألا يأخذ من أموال المسلمين إلا أن يكون ذلك للضرورة وبقدرها, وقد عبر عن ذلك بقوله :إقرؤا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، إنه لن يبلغ من حقِّ ذي حق أن يطاع في معصية الله؛ ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن استغنيت استعففت وإن احتجت استقرضت ،فإذا أيسرت قضيت . فلقد أدرك الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه أطراف معادلة الفساد والذى يترتب عليه إفساد الحياه السياسية خير إدراك وعرف نقطة البداية فألزم نفسه بها، فمنذ اليوم الأول لخلافته دعا إليه أفراد أسرته فقال لهم: إن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم, فإذا وقعتم وقعوا, وإن هبتم هابوا, وإني والله لا أوتى برجل منكم وقع فيما نهيت الناس عنه, إلا ضاعفت له العذاب لمكانه مني". فلقد أرتقت سياسة الخليفة عمر بن الخطاب في مكافحته للفساد لحد التورع عن الشبهات مهما كلفه هذا الأمر من مشقة تكدر صفوالعيش, فها هو يقسوعلى نفسه, ويقدر له ولعائلته من بيت مال المسلمين, مالا يشبعه أو يشبع عياله, ومالا يكسوه أو يكسوهم, وقد كان صاحب تجارة تكفيه قبل توليه خلافة المسلمين, فاجتمع علي وعثمان وطلحة والزبير, فجاءوا إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر, وأشاروا عليها أن تحدث أباها أمير المؤمنين في زيادة ما يتقاضاه, فالمغانم بحمد الله عظيمة, وقد كثر المال, فلما كلمته حفصة في ذلك غضب, وسألها عمن أشار عليها بما قالته, فقالت :"لا سبيل إلى علمهم" ثم قال:" يا حفصة, قولي لهم إن مثلي ومثل صاحبي, كثلاثة سلكوا طريقا, فمضى الأول وقد تزود فبلغ المنزل, وتبعه الثاني فسلك طريقه فأفضى إليه, ثم أتبعه الثالث, فإن لزم طريقهما ورضي بزادهما لحق بهما, وإن سلك غير طريقهما, لم يدركهما". لم يكتف الفاروق عمر بهذا السياج الذي أحاط به نفسه في حربه ضد الفساد, بل أحاط نفسه بسياج آخر شكل محور الأمان الحقيقي للقضاء على جذور هذا الوباء في المجتمع, عندما رفع شعار:" الحاكم تحت رقابة المحكوم "حيث عمد الخليفة بهذه السياسة إلى الإرتقاء بجانب الرقابة إلى أبعد مستوياتها خصوصا وأن الخليفة عاد ليبدأ بنفسه مرة ثانية, يروى أنه دعى الناس فصعد المنبر فقال:" يا معشر المسلمين, ماذا تقولون لو ملت برأسي إلى الدنيا.؟إني لأخاف أن أخطئ فلا يردني أحد منكم تعظيما لي,إن أحسنت فأعينوني وإن أسئت فقوموني".فقال رجل:" والله يا أمير المؤمنين لو رأيناك معوجا لقومناك بسيوفنا"عندها أجاب الخليفة الزاهد والفرحة تعمر قلبه قائلا:"رحمكم الله,والحمد لله الذي جعل فيكم من يقوم عمر بسيفه". لقد أراد أن يبرهن للرعية وبشكل قاطع,أنه لا حصانة لأحد أمام القانون,حتى لأمير المؤمنين نفسه بالرغم من موقعه الدبلوماسي عالي المستوى, فقد أدرك الفاروق منذ اليوم الأول لخلافته أن : السلطة المطلقة فساد مطلق كما أراد أن يدفع ويفعل دور الرعية في مكافحة هذا المرض الخطير الذي يحتاج إلى تكاتف الجهود, حاكمين ومحكومين.كان هذا هو الحرف الأول من سياسة الفاروق عمر بن الخطاب في احتواء خلايا الفساد والقضاء على جذورها, لقد فكر فأبدع فنجح عندما جعل من نفسه قدوة للأمة جمعاء, حينما عفت نفسه ويده عن أموال المسلمين,فعفت الرعية من بعده, ووزع المال على أصحابه بالحق, فنال كل ذو حق حقه, فعم العدل, ووقي المجتمع من ويلات سرطان الفساد. ليس هذا فحسب بل أنه أرسي مبدأ رصد الواقع بنفسه والاطلاع علي أحوال الناس, وعدم الاكتفاء بالتقارير التي يرفعها الولاة والمسئولون وهو الذي قال قولته والله إني لأعلم أن للناس حوائج تقطع دوني, أعمالهم فلا يرفعونها إلي, وأما هم فلايصلون إلي والله لئن عشت لأسيرن في الرعية حولا كاملا. رحمك الله ياعمر بقدر ما علمتنا وأرسيت من مبادئ لو اننا عدنا إليها لكانت طوق النجاة للمجتمع فى شتى مناحى الحياة وكانت خير مواجهة للفساد الحاصل فلم يترك مجالاً دون أن يرسئ بشأنه المبادئ التى تحكمة وتحقق صلاحه وضرب أروع الأمثلة فى مواجهه توريث الحكم بما يمثل ذلك من فساد للحياة السياسية فلقد رفض أمير المؤمنين إلحاح اصحابه لكى يولى ابنه عبد الله منصباً من مناصب الدولة وهو التقى الزاهد، لكن الفاروق رضى الله عنه رفض كما رفض عند موته أن يرشحه للخلافة بل رفض أن يجعلة ضمن الستة الذين رشحهم هو ليختاروا خليفة قائلا "حسب آل عمر أن يحاسب منهم واحد ,هو عمر" وقد أرسى مبدأ جلياً فقال " من أستعمل رجلاً لمودة أو لقرابة ,لا يحمله على أستعماله إلا ذلك ,فقد خان الله ورسوله والمومنين.وروى الحسن رحمة الله قال :قال عمر :أعيانى أهل الكوفة فإن استعملت عليهم ليناً استضعفوه وإن استعملت عليهم شديداً شكوه ولو وددت أنى وجدت رجلاً قوياً أميناً مسلماً أستعمله عليهم فقال رجل:ياأمير المؤمنين أنا والله أدلك على الرجل القوى الأمين المسلم فإثنى عليه قال:من هو قال:عبد الله بن عمر قال عمر:قاتلك الله والله ما أردت الله بها . هذه هى المبادئ التى استقامت فى ظلها الحياة السياسية طبقها الفاروق رضى الله عنة وأرضاه على نفسه أبتداً كما روى أنس رضى الله عنة قال :نظرت فى قميص عمر رضوان الله علية فإذا بين كفيه أربع رقاع لا يشبه بعضها بعضاً.حتى أنه أراد درء الشبة عن نفسة فأستأذنته السيدة عائشة رضوان الله عليها فى دفنة فى منزلها بعد وفاته فلقد روى عن محمد بن سعد أن مالك بن أنس رحمة الله قال : استأذن عمر رضوان الله عليه عائشة رضوان الله عليها فى حياته فإذنت له أن يدفن فى بيتها فلما حضرته الوفاة قال إذا مت فاستأذنوها فإن أذنت وإلا فدعوها فإنى أخشى أن تكون أذنت لسلطانى فلما مات أذنت لهم.رضى الله عنه وأرضاه فكان ما أرشدنا إلية دون لبس أو أبهام من قواعد تحمى المجتمع من الفساد بكافة صوره وشتى أنواعه وطبقها على نفسها وعلى أهله وأرسئ القواعد التى تكفل الحكم الرشيد فلا حصانة لحاكم فى الاسلام ولا تمايز بين الحاكم وبين الرعية، فالجميع متساوون فى الحقوق والوجبات وتفعيل رقابة الأمة على الحاكم وإعلاء مبدأ الشورى والمساواة بين الجميع لتحقيق العدالة. فالإسلام رسالة عدل وقد طبق الفاروق ذلك مهتدياً بنهج النبى صلى الله عليه وسلم والصديق رضى الله عنة فكانت خير مواجهه للفساد بما طبق من قواعد وأستقر من مبادئ الحكم ....والآن هذه هى المبادئ التى أرساها الاسلام فى غير إبهام لتطبيق الحكم الرشيد ومواجهه الفساد السياسى ......فماذا نحن فاعلون ؟؟ [email protected]