في مدينة الحبيب المصطفي تبتهج الأرواح وتسعد القلوب وتزدهر العيون برؤية القبة الخضراء، وبنسمات من عبير الجنة تتفتح المدارك وتتدفق الأنوار وتتجلي الأسرار وتتوالي الفتوحات ويتسابق المتسابقون إلي الروضة الشريفة بين بيته ومنبره صلي الله عليه وسلم، في كل دقيقة يصلي المئات بين يدي ربهم خلف محراب الرسول (ص) يتبادلون قدما قدماً وشبراً شبراً في نظام مبهر لم يعلمهم إياه بشر إلا تخلقا بخلق صاحب المحراب وتأدباً في مقامه. في مدينة الحبيب المصطفي لا يبهرك الهدوء المعجز رغم تقدم الزمن والعمائر متسلقة الجبال ولا الصحراء شاسعة الفضاء رغم أنك تلتقي من شتي بقاع الأرض بشرا من كل لون وعرق ولغة يستقبلون قبلة واحدة ويصطفون خلف إمام واحد، يسجدون لله الواحد، يصلون علي النبي وعلي موتي لا يعرفون جنسيتهم ولا حتى أسماءهم بعد كل فرض جنازة جديدة لجماعة من الرجال والنساء والولدان شاء الغفور الرحيم أن يسكنهم مساكن الخلد في البقيع إلي جوار الصديقين والأولياء. في مدينة المصطفي قد يمرض لك مريض فينصحك الناصحون بمستشفي الملك فهد فتدخل إلي عالم من التقدم يصل إلي فتح وغلق الأبواب باستخدام التكنولوجيا الرقمية، تستقبلك الأجهزة الإلكترونية لمدة تزيد عن ساعة من الفحص الدقيق تنتقل خلالها من غرفة لغرفة علي سرير ناعم الأوسدة يتزلج رخام حريري الملمس من فرط التنظيف شبه الدائم وتكتشف من ثاني غرفة ويتأكد اكتشافك مع كل انتقال أن شبكة الحواسيب المنتشرة أمام كل فرد تقريبا تعرض تاريخك المرضي وعدد مرات ترددك علي المستشفي وكافة نتائج التحاليل أو الأشعات وكل تشخيص أو تقرير أو علاج أو حتي رأي عن كل مرة من مرات ترددك، و يمكن لأصغر الأطباء سنا من خلال أي حاسب متصل بالشبكة أن يكشف لك عن أسرار جسدك التي لا تعرفها، تلتقي خلال هذه الساعة بممرضات فلبينيات وفنيين هنود وأطباء شبان سعوديين وبعض الأطباء الهنود أو السودانيين وأطباء و طبيبات مصريين ومصريات. ولأن الأطباء مشغولون جدا دائماً ولا يشاركون في المسائل الإدارية أبدا وعلي الإطلاق فعليك أن تحصل علي استفساراتك من الممرضات و الفنيين وقد تعجز عن ذلك لو لم تكن متمكنا من اللغة الإنجليزية وإلا صححت لك الفلبينية نطقا أو تعرضت لحرج تدقيق الهندي استخدامك للمفرد الصحيح فتلعن الظروف والأنظمة التي أرغمتك علي لغة العجم فوق أرض احتضنت و نصرت الحضارة العربية يوم مهدها. إلي أن تبتسم لك الحياة فتسمع لهجة مصرية في صوت فتاة في نهاية العقد الثالث من العمر أجبرتها الغربة أن تتعمد الجدية وتتصنع الخشونة في الحديث حتى لا يطمع الذي في قلبه مرض و من وراء نقاب يتمكن من إخفاء ملامح وجهها لكنه ومهما كان لا يخفي مصريتها أبداً؛ فتكتشف بعد دقيقة من الحوار معها أن الله يرسل الملائكة تحمل أطواق النجاة للمستغيثين به لتنهي لك كافة الإجراءات المعقدة بيروقراطياً أكثر مما في مصر علي يد طبيبة مصرية تستحي من فرط رجولة الطبع والموقف منها أن تسألها عن الظروف التي أودت بها إلي صحراء الحجاز وهي التي تتدخل فيما لا يعنيها لمجرد أنك مصري و ترافق مريض مصري في عمر أبيها جاء إلي أرض الحجاز مستمرا بيت الله وزائرا مسجد نبيه، و يكفيك إجابة عن أي استفسار يخصها أن كل حرف تنطق به يذكرك أن ماء زمزم الذي جئت إلي الحجاز لتروي به عطش روحك تدفق تحت قدم امرأة مصرية من نسل رحمها جاء إلي الإنسانية أعظم الأنبياء، كما تكتشف بعد أن تطول ساعات الفحص وما بعد الفحص دون تشخيص أو علاج أنك والجميع في انتظار استشاري أيضا مصري ليشخص و يقرر العلاج بعد هذا الزخم التكنولوجي وهذه الكثافة من اللغات والجنسيات. ثم تشاء الأقدار أن تواجه بعد العودة إلي أرض مصر ظروفا أصعب مع حالة مرضية أخطر في مستشفي السلام الدولي بالمنصورة حيث لا تكنولوجيا ولا رخام و لا وسادات ناعمة ولا حواسيب ولا أجهزة حديثة ولكن هناك رجل مخلص يدير المستشفي في مثل هذه الظروف اسمه الدكتور أسامة عبد العظيم و تهبط إليك رحمة ربك بطبيب في مطلع العقد الرابع من العمر وهبه الله المهارات الكافية لإنقاذ حياة طفل عمره أربع سنوات من إصابة بطلق ناري من مسافة أقل من خمسة سنتيمترات دخل من أسفل البطن وخرج من أسفل الظهر ووصل إلي المستشفي بعد ساعتين كاملتين من الإصابة فينجيه الله ويمد في عمره ويقر به عين والديه علي يد الطبيب المصري الموهوب الذي يمتلك فوق هذا من التواضع و الثقة في الله والنفس ما يستحق أن تغبطه عليها لدرجة أنك تسأل عنه زملاءه فيقولون الدكتور محمد حسن كفاءة نادرة الوجود وحين تشكره علي ما بذل من جهد تجده يشكر توفيق الله وفضله وينسب الفضل من بعد الله لمدرسة أستاذه استشاري جراحة الأورام المشهود له الدكتور إبراهيم الزيات؛ فلا تجد ما تقوله بعد التجربتين بين مستشفي النفط والتكنولوجيا المستوردة و مستشفي النضال والعزيمة إلا عمار يا مصر؛ عمار بالمخلصين من أبنائك و لو نال الفساد و الإهمال من كل طوبة أو ذرة تراب علي أرضك. أخيرا .. عن فنون العمارة ومتانتها في تجديد وترميم وإنشاء التوسعات في المساجد التاريخية والحرمين بالمدينة المنورة ومكة المكرمة سترفع رأسك كثيرا كلما رأيت الانبهار في عيون مخاطبيك واهتزت لحاهم تومئ بالإيجاب والإعجاب مرددة جملة واحدة مختصرة ومعبرة وموحية في تبرير روعة ما تراه قائلين: مهندسين مصريين. وحين تروي هذا لطالب التكنولوجيا الناصري الثوري أحمد موسي فيرد عليك بمنتهي الثقة وبدون ثمة اندهاش: إحنا بنينا الأهرامات من سبع آلاف سنة؛ فإنك تتنفس شهيقا يملأ صدرك عبيراً ونفسك أملا وقلبك طمأنينة.