الرجوع للمنابع الأولى في النظر للنص وتنقية ماعلق بالفهم من أساطير وأحاديث منحولة وما يتبع ذلك من سلوك ينعكس إيجاباً على أرض الواقع في صورة رقى مادي وحضاري، والتعاطي مع النص كقاطرة ثورية تدفع بالمجتمع للأمام تعصف بكل أشكال التخلف والاستبداد والتبعية، ألم تكن كل هذه الأهداف النظرية وما يتبعها من بعد عملي هي التي دفعت هذا الجيل المصري الرائع المنتفض كالعنقاء من هذه العقود الجاثمة كالجبال على صدر الأمة المصرية وبعد هذه الصدمة الحضارية الصاعقة المتمثلة في الحملة الفرنسية بكل تلك الجلبة الاستعمارية والتي حملت معها المطبعة والمدفع لتصفع بكل قوة عهود التخلف العثماني وما سبقه من عهود ظلامية تمثلت في شوط طويل من العصر المملوكي..وقف المصري على مفترق طرق بين العهدين حائراً باحثاً عن دليل يأخذ بيديه أينغمس بكليته في هذا الوارد الأوروبي الجديد ببريقه اللامع أم يقع في أسر الماضي بكل ما فيه من تأويلات بشرية جرت عليه كل أشكال التخلف المادي والروحي؟، فكان هذا الجيل الفريد الذي أخذ من الحضارة الأوروبية ولم ينس حضارته الإسلامية العظيمة فمزج بين العطاء الإنساني الغربي ومساهمته العملاقة في التقدم المادي والسياسي والعطاء الإنساني الشرقي وما قدمه من رقى روحي وحضاري وأطر ذلك كله في إطار النص المقدس الصافي الأول، وفرق بعبقرية بين ماهو مرتبط بالواقع الإجتماعى وما تبعه من أعراف وتقاليد متغيرة بتغير الزمن وبين ماهو عقائدي شرعي ثابت ولكنه يتسم بمرونة تسع كل احتياجات الإنسان وتطلعاته للحرية والحق والخير والجمال، فكان الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وتلاميذهم الذين ساروا على دربهم من أمثال قاسم أمين ورشيد رضا وعلى عبد الرزاق والعقاد وطه حسين ولطفي السيد وسعد زغلول وذكى نجيب محمود وجمال حمدان وتوفيق الحكيم وغيرهم الكثير من عمالقة العصر في كل المجالات الذين لا نستطيع حصرهم في كتاب ضخم فما بالك بمقال محدود المساحة والكلمات. فالرجوع بالدين الإسلامي إلى منابعه الأولى كان هدف هذا الرعيل الأول من عباقرة الفكر فكيف تم سرقة هذا الهدف بلفظه فقط دون مضمونه من هذا الجيل ونسبته إلى هذا المد الصحراوي وطمس جهود أولئك العظام بل والتلاعب في هدف مشروعهم من وضع الدين في سياقه كآلة من آليات تثوير المجتمع إلى استخدامه كوسيلة من وسائل الحكام في كبت الحراك السياسي الإجتماعى لصالح استبدادهم ومشروعهم التخريبي في تدجين المجتمعات الإسلامية والعربية منها في الخصوص فتم العصف بمشروعهم لصالح مشروعات الوهابية التي لاتخفى تحالفها منذ نشأتها مع الاستعمار بشتى أشكاله. ولأن مشروع محمد عبده كمثل أعلى لم يكن مشروعاً تنظيرياً فقط وإنما كان له من الأبعاد العملية والسياسية التي ركنت إليها معظم أحزاب عصرها من أول الحزب الوطني (العرابي) ديسمبر 1881 فالأستاذ الإمام قد وضع برنامجه بنفسه ويكتب الأستاذ الإمام في البند الخامس من البرنامج ( الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب وجميع المسيحيين واليهود وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم بلغتها منضم إليه، لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات، ويعلم أن الكل إخوة وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية) الأعمال الكاملة ج 1. نظر الأستاذ الإمام لمدنية الحزب بأسلوب راقي تفتقر إليه معظم الأحزاب المعاصرة فهو يقر بكل صراحة بعلمانية الحزب وهو الأزهري المعمم (الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني) ويؤسس لمبدأ المواطنة وأن الجميع يتساوى في الحقوق والواجبات مادام مصريا يتكلم بلغة هذا الوطن ويحرث أرضه بغض النظر عن دينه أو معتقده. ولما جنح الأستاذ الإمام للجانب العملي متوازياً مع الجانب التنظيرى كان ذلك بمثابة إعلان الحرب على قوى الاستعمار التي لم تمانع أبدا أن يقول نظريا كيف يشاء فكانت حربا دعمها الاستعمار باستخدام مشايخ البداوة والصحراء. انتقل الأستاذ الإمام من صفوف الإصلاحيين سريعا لينتقل إلى صفوف الثوار، ينتقل بكل قوة من برودة النظرية إلى لهيب التجربة العملية والنضال الثوري فيلتحق بصفوف الثورة العرابية ويدبج المقالات في التبشير بولادة الرأي العام المصري وضرورة احترام القانون وأن يكون الجميع سواء أمامه سواء أكان محكوماً أو حاكماً فيكتب في مقالة نشرت في الوقائع المصرية في ديسمبر 1881 بعنوان الشورى والقانون: (ومما تقدم سرده تعلم أن أهالي بلادنا المصرية دبت فيهم روح الاتحاد، وأشرفت نفوسهم منه على مدارك الرأي العام، وأخذوا يتنصلون من جرم الإهمال ،ويستيقظون من نومة الإغفال،وقد مرت عليهم حوادث كقطع الليل المظلم، ثم تقشعت عنهم ،فطالعوا من سماء الحق ما كحل عيونهم بنور الاستبصار حتى اشرأبت مطامعهم إلى بث أفكارهم فيما يصلح الشأن،ويلم الشعث، ويجمع المتفرق، ليكونوا أمة متمتعة بمزاياها الحقيقية، فهم بهذا الاستعداد العظيم أهل لأن يسلكوا الطريق الأقوم، طريق الشورى والتعاضد في الرأي). وتكون الذروة بضرورة استحقاق الشعب المصري لمجلس نواب له كل السلطات التشريعية والرقابية منتخب من كافة أطياف الشعب وممثلا لكل طبقاته فيكتب في ذات المقال: ( ولقد أزف الوقت، ولم تسمح لهم ظروف الأحوال بأن يتأخروا عن سن قوانين يراعى فيها ضبط المصالح على وجه ملائم، يتبادلون فيه الآراء الحرة والأفكار الصائبة، فلذا أجمعوا رأيهم على تكليف مجلس شورى مما لهم دربة ودراية تامة بشئون البلاد) من مقال الشورى والقانون الوقائع المصرية 1881 علم الأستاذ الإمام أن مجتمعا يسير في طريقه بنصف طاقة ونصف آخر معطل بل معوق لمسيرة التقدم مثقل بسحائب الجهل والأسطورة لن يصل لأهدافه فكان كتاب "تحرير المرأة" 1899 لتلميذه النجيب قاسم أمين والذي شاركه فيه تأصيلا وكتابة ويكاد الدكتور محمد عمارة في تحقيقه الرائع لأعمال الأستاذ الإمام أن يجزم أن الإمام قد كتب معظم أجزاء الكتاب بنفسه ولكنه مخافة القوى الاستعمارية وأذنابها من مشايخ الرجعية آثر السلامة ولم يكتب اسمه على الكتاب خاصة وأنه كان قد تبوء وقتها منصب مفتى الديار المصرية ،كتاب "تحرير المرأة" تلك النقلة النوعية الهائلة في الفكر الإسلامي الذي أصل الإمام معظم فصوله من الكتاب والسنة ومذاهب فقهاء المسلمين والذي جاء بآراء غاية في التقدمية وقتها كان ضربة قاسمة لكل من يريد أن يجمد المجتمع على ما كان عليه من التخلف العثماني، انظر ولاحظ الفرق المحزن بين ما كان عليه الفكر الإسلامي وأئمة الإسلام وماهم عليه الآن من نقل لفتاوى معلبة مستوردة لا تناسب مجتمعنا!!. ففكر الأستاذ الإمام الذي لم يقتصر على جانب التنظير فقط كان من أهم أسباب محاربته وتلك الهستريا المسيطرة على من يريدون طمسه ودفنه. ربما أيضا وسطية فكر الإمام الأستاذ واستنارته كان من أحد أسباب محاربته فلا مكان للوسطية في أزمنة الجنوح والتطرف القائم في أسلوبه على الصراخ وازدراء العقل واحتقاره، هل يستقيم فكر الأستاذ الإمام مع ذلك؟! وهو الفكر القائم على الحوار الهادئ وطرح الأسئلة على العقل واحترام الحضارات وإسهام الشعوب في بنائها. كان لثورة يوليو الدور الأعظم في إحداث حراك إجتماعى عظيم لم يرد في خيال أحد، كان لها الفضل في جمع كل طبقات الشعب حول مشاريع اجتماعية واقتصادية هائلة مازلنا نعيش على ذكرياتها حتى الآن، تصيبك الرعشة حينما تتذكر صور الزعيم الخالد وهو يوزع الأرض على المعدمين من الفلاحين أو وهو يعطى إشارة البدء لتأميم القناة أو تحويل مجرى النهر العظيم توطئة لبناء السد أو مشروع التصنيع الثقيل وغيره وغيره من المشروعات.. إلا أن الطغيان على الحرية السياسية والفكرية كانت السقطة التراجيدية العظمى التي كانت سببا في الانقلاب عليها فيما بعد بانفتاح استهلاكي أتى على كل شئ كان في مقدمته التراث الفكري الهائل لهذا الجيل الرائع والانغماس حتى الأذن في أنماط اقتصادية طفيلية استهلاكية جلدت المصري ذاتيا حينما تعرض لموجة إفقار لا تعرف الهوادة ولا تناسب تطلعاته الاستهلاكية فكانت موجات الهجرة الواسعة لدول النفط والمقارنة الغير عادلة بين الحياة هناك وبين الحياة في أحضان الوطن المنهك. جاء المصري بالدولارات والأجهزة الكهربائية والملابس ولكنه أيضا جاء بنمط فكرى جديد غريب على المجتمع منبهرا بكل ماهو صحراوي محتقرا لكل ماهو مصري أصيل ومع انهيار مستوى التعليم والثقافة وتراجع معدلات القراءة كان الطمس الحقيقي لفكر أولئك العظام لصالح فقهاء ومشايخ الصحراء بل انظر- على سبيل المثال فقط - لما حدث من تغير في الذوق المصري في السماع للقرآن الكريم كيف تم هجر عباقرة القراء المصريين أمثال الشيخ مصطفى إسماعيل والحصرى لصالح قراء يسيطر على قراءتهم خنفا بدويا هو من طبيعة طبقاتهم الصوتية الفقيرة المحدودة. كان التجريف الوحشي والهائل للشخصية المصرية متعمد لإحداث كل هذا الخلل الذي نلاحظه الآن فئ المجتمع . كان الإفقار المتعمد وعدم وجود مشاريع قومية عملاقة تلهب الروح الوطنية دافعا للارتماء في هذه الموجات من التدين الزائف وفتاوى جلد الذات واحتقارها المصحوبة بفقدان للوعي بالذات والشخصية والوطن ورموزه من العمالقة في كل المجالات. فالعودة لروح الأستاذ الإمام محمد عبده والأفغاني وغيرهم من رواد الفكر المصري مرهونة فقط بعودة وعى المصري بذاته وهويته وقيمته. Comment *