"التهافت" و"تهافت التهافت"، كتابان لا زالت ظلالهما وأنوارهما ينعكسان على حاضرنا تماماً كما انعكسا على الماضي، فالقصة ليست حادثا عابرا، القصة ملخصا لصراع مدرستين فكرتين، انتصرت فيها تلك التي تميل إلى التقليد، وانهزمت التي تركن إلى العقل والمنطق والفلسفة، وواقعنا ينطق بالنتيجة. كان صاحب المدرسة الثانية بن رشد فقيها ومتفلسفا وطبيبا وفلكيا وقاضيا ودارسا للفزياء، نشأ في قرطبة لأسرة راقية الحال، ودرس الفقه على المذهب المالكي والاعتقاد على المذهب الأشعري، وحفظ ديوان المتنبي، وقد ترك بن رشد أثرا له في كل علم مر عليه، وكان للفلسفة النصيب الأكبر من تلك العلوم، دافع عمن سبقه من الفلاسفة وصحح علماءهم حيث يعتبر بن رشد من أهم رواد الفلسفة الإسلامية، تأثر ببعض ممن سبقوه أمثال أفلاطون، أرسطو، أفلوطين، الإمام مالك، ابن باجة، ابن زهر، ابن طفيل، الفارابي، ابن سينا، وأثر في كل من عاصروه أو لحقوا به خاصة بن خلدون، رينيه ديكارت، توما الأكويني، دانتي أليغييري، جوردانو برونو، جاويد احمد غامدي، جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا، بويتيوس من داسيا، سيجير برابانت، تشيزاري سريمونيني. المفارقة أن بن رشد رغم هذا الزخم الذي أحدثه، والمدرسة التي خلفها، تعرض وهو في آخر حياته لأشد أنواع التنكيل، حيث اتهمه علماء الأندلس والمعارضون له بالكفر و الإلحاد وتم نفيه إلى مراكش حتى توفي فيها. قال الدكتور محمد الدويك الباحث في علم اجتماع الفقه، " الإسلام والفلسفة والدين لا يتعارضان فكلاهما يتخذ من الإنسان والطبيعة والتاريخ موضوعا، وبن رشد واحد من هؤلاء الذين أدركوا وعاشوا حياتهم يراوحون بين الفلسفة والدين ، مابين الممازجة والمفارقة ولد في قرطبة وعرف أن بوابة علوم الدين تبدأ من جسد الإنسان فتعلم الطب وأن مدخله فن الكلمة فحفظ المتنبي وأن سواره هو الإدراك فدرس الفلسفة وحفظ موطأ مالك فاكتملت سلسة الذهب. وأضاف الدويك " قال الله تعالى أنزل إليك الكتاب والحكمة، وافترق الفقهاء بين متجاهل للحكمة كمصدر ثان للتشريع، وبين متحايل على النص لإفراغه من دلالة معناه، والحكمة هي علوم الإنسان التي يتوصل إليها بالبحث والتجربة والتراكم هكذا اعتقد بن رشد، فقدم الحكمة على النصوص الظنية، الثبوت والدلالة وكتب في ذلك كتابا مهما هو فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال، وتابع الدويك "درس فلسفة أرسطوا وأفلاطون وتصدى لشرح هذا التراث لتلامذته مع وضع ملاحظاته على بعض ما قالوه، وتحدث عن الفضائل الأربعة في الجمهورية، الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة، وكان يرى تعميم فضيلتي العدالة والعفة في إدارة الدولة حتى يتمكن العامة من الحصول على درجة السعادة التي تقدمها الفلسفة للخاصة، موضحاً أن الأحقاد كانت تهاجم قلوب غيره من الفقهاء، الذين فرغوا لفروعيات الفقه التقليدي، الذي لا يحتاج إلى سعة أفق ويقظة ذهن، ولما قارنوا انتاجهم بنتاجه، أحسوا الخطر والانكشاف، فكان الحل هو الاتهام عبر تهافت الفلاسفة، وانتهى الحال بالرجل أن حرقت كتبه، وخرج المسلمون من غرناطة، ليدخل الأوربيون يبحثون عن بقايا بن رشد، يجمعون الرماد ليجعلوه قصاصة ورق يلتمسون فيها المعرفة، وقرأوا كتبه في الفلسفة والنقد وقرأنا نحن كتب التكفير والشعوذة. مستطردا أن رد بن رشد على كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة، بتهافت التهافت وتصادم الكتابان كانت نتيجة المعركة بين الكتب، هي نتيجة المعركة على الأرض، كانت أفول شمس المعرفة الإسلامية، وتراجع حدودها وبداية التقليد والتلقين، عن الاجتهاد والإبداع. فورثنا نحن تهافت الفلاسفة، وورثت غرناطة تهافت التهافت، وذاك حالنا. مشدداً على أن مدرسة بن رشد لم تمت إلى الأبد ولكنها انحسرت، ولكن زال هناك من يحمل راية هذه المدرسة أمثال الدكتور طه جابر العلواني، استاذ كلية الدراسات الإسلامية بشيكاغو أمريكا؛ وهو مصري من أصل عراقي ، درس الماجيستر والدكتوراه في الأزهر، بعض كتبه في الفكر الإسلامي والسنة تعد منهج جديدا يجب الالتفات إليه، وكيفية نظرتنا للسنة النبوية والتراث الإسلامي، وكذلك الصادق المهدي كمقاوم للتجربة الإسلامية المتعصبة هناك بفكر مستير، والشيخ عبدالله بن بيه في موريتانيا وهو صاحب اجتهادات جديدة في أصول الفقه، وفي الذرائع سدا وفتحا وفي دمج علم الاجتماع بالفقه الإسلامي. Comment *