نعم.. أرجوك أن تقرأ ما يلي من سطور نشرتها مؤخراً مثقفة عربية مسلمة هي البروفيسور "كريمة بنونة" أستاذة القانون في جامعة كاليفورنيا.. ورغم أننا لم نتشرف بالتعرف عليها شخصياً، إلا أننا نتصور أنها من عائلة "بنونة" التي تضم مفكرين ومثقفين وأكاديميين من دولة المغرب العربي الشقيقة .. ومنهم مثلا البروفيسور "محمد بنونة" القاضي العربي حالياً في محكمة العدل الدولية في لاهاي، وقد خَلَف في هذا المذهب العدلي الرفيع مواطننا المصراوي الدكتور نبيل العربي أمين الجامعة العربية كان الله في عونه على ما يلاقيه في هذه الأيام. وكل ما أسهمنا به في هذه السطور هو الحرص على دقة ترجمتها عن الإنجليزية بعد أن طالعناها تحت عنوان "طالبان تمبكتو" وقد نشرتها الدكتورة "بنونة" في جريدة "نيويورك تايمز" (عدد الأربعاء 24/1/2013) فيما استرعى اهتمامنا ذلك التنويه بأن الأستاذة المسلمة اليعربية بسبيل إصدار كتابها الوشيك تحت عنوان لا يخلو من دلالة من حيث التصدي لآفة التطرف والتنطع باسم الإسلام الحنيف، والعنوان هو: * "فتواك لا تصلح للتطبيق هنا: قصص غير محكية من واقع الحرب ضد الأصولية الإسلامية". و ... إلى المقال "... قبل الاجتياح الفرنسي الذي تعرَضَت له "مالي" في الآونة الأخيرة كان 412 ألفاً من البشر قد غادروا شمال "مالي" فراراً من أعمال التعذيب والإعدام التعسفي بغير محاكمة وتجنيد أطفالهم في صفوف المقاتلين وارتكاب أعمال العنف الجنسي بحق النساء على يد "شراذم" الأصوليين المتشددين. ومن جانبي فقد التقيت منذ أواخر العام الماضي في الجزائر وجنوبي مالي بعشرات من مواطني الشمال من ذلك البلد الأفريقي، وكان من بينهم الكثيرون ممن هربوا مؤخراً ومن ثم جاءت شهاداتهم لتؤكد وقوع الفظائع الرهيبة التي ارتكبها الإسلاميون الراديكاليون الذين نصبوا أنفسهم مقاتلين في سبيل الله – بحق المجتمعات التي ينتمون إليها. هؤلاء الأصوليون بدأوا أولاً بحظر الموسيقى في بلد يتمتع بتراث موسيقي فريد من نوعه في العالم. ** وحتى المزارات المباركة لم تسلم من أيديهم: لقد نصّبوا أنفسهم أيضاً بوصفهم "حماة العقيدة" فأقدموا على هدم أضرحة الأولياء من أهل الصوفية وقد كانت تحفل بها مدينة توتمبكتو الأسطورية وأفيد بأن الجماعات المسلحة قامت كذلك بهدم عدد كبير من الكنائس في مناطق الشمال رغم أن صرح لي أفراد من الأقلية المسيحية الصغيرة التي تعرضت للتشريد أنهم كانوا يشعرون في السابق بأنهم موضع قبول كامل من جانب المجتمع الذي يعيشون فيه. والواقع أن هذه الأساليب التي تتبع مسار "القاعدة" وهذا التطرف الذي يدفع خطاها .. أمور غريبة تماماً عن الإسلام في مالي التي طالما ظلت معروفة بالتسامح والانفتاح على مر السنين. هذا الانفتاح هو بالضبط ما يسعى الجهاديون إلى تدميره، ومن ثم حمل الناس على إقامة بلد جديد يقوم على أساس "الشريعة" على نحو ما أعلنه في أغسطس الماضي مفوض الشرطة الإسلامي في مدينة "غاو". ولكن الحاصل أنه حتى بداية الأعمال العسكرية في الشهر المذكور كان مواطنو تلك الأنحاء يبذلون قصاراهم في مقاومة فرض هذا الأمر، ومن ثم ظلوا يقاتلون ضده بشجاعة مشهودة. والحاصل أيضاً أن مذيعاً في الراديو تعرض لضرب مبرح على يد المقاتلين الإسلامويين لمجرد أنه تحدث في الإذاعة عن رفض عمليات قطع اليد أو السيقان .. بل نظمت النساء مسيرات طافت بشوارع "تمبكتو" لمعارضة الأوامر (والفتاوى) التي تفرض الحجاب .. ولم تتوقف هذه الاحتجاجات إلا بعد أن واجهت إطلاق النيران. ويحكي لي مدير مدرسة للتعليم المختلط في "غاو" كيف وقعت مدرسته ضحية تحت احتلال المتشددين المنتمين إلى حركة "الوحدة والجهاد في غرب أفريقيا" وقد اقتحموا مبنى المدرسة بزعم حمايتها وبدلا من ذلك فقد قاموا بسرقة ونهب محتوياتها من الحاسبات الإلكترونية والثلاجات والمقاعد وما إليها. ثم يختتم مدير المدرسة إفادته قائلا: - نحن نعد أنفسنا واقعين تحت الاحتلال، ونرى في أنفسنا شهداء بمعنى الكلمة. والواقع أنه منذ استيلاء "المجاهدين" على "غاو" وصل اقتصاد المدينة إلى حالة من التوقف التام. وبدلا من ذلك يشهد كل خميس محاكمات صورية من حيث اتخاذها الطابع الثيوقراطي (الديني) واستخدامها اللغة العربية رغم أن أغلب السكان لا يتكلمون بها في حين يركز الأصوليون على تعليم سكان "غاو" بكل أغلبيتها الساحقة من المسلمين .. "كيف يصبحون .. مسلمين" .. وهم ينسجون على منوال جماعات "الشباب" في الصومال و "طالبان" في أفغانستان في تشكيل فرقة للسهر على الأخلاقيات – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ممن يجوبون أنحاء المدينة في دوريات تفتيش عمن لا ترتدي الحجاب الأصولي أو من يرتكب خطيئة الإثم حين يتخذ لحنا موسيقيا ينبعث من هاتفه المحمول. إما أن يشاهَد رجل وهو يتحدث إلى امرأة في الطريق العام، فذلك جرم وصل في جسامته الحد الذي بات الرجال إزاءه يفرون إذا ما صادفوا امرأة في الشارع(!). مدير المدرسة دأب من جانبه على حضور المناسبات التي يتم فيها علانية تطبيق العقوبات (الحدود) بغرض توثيق هذه الفظائع .. وهو ما معناه أن يضطر الرجل إلى مشاهدة مواطنيه وهم يتعرضون لعقوبة الجَلد فما بالنا عندما يشاهد بتر القدم في حالة مجرم "مدان" .. وقد قال لي وقد خنقته الدموع: - لا أحد يطيق هذا ولا نملك إزاءه مقاومة أو دفعا. وحين نضطر لمشاهدته .. لا نملك سوى البكاء. صحيح أن هناك من رافضي التدخل العسكري في مالي، سواء كانوا من عناصر الداخل أو على المستوى الدولي، من دعوا إلى التفاوض مع الجماعات المتمردة كبديل عن ذلك التدخل. لكن من المستبعد أن ينجح مثل هذا التفاوض مع جماعات يعتقد أفرادها أنهم وكلاء مفوضون من لدن الله (سبحانه) وبذلك قاموا بفرض نظام للحكم غريب تماما عن شعب "مالي" .. وقد سمعت بنفسي لدى زياراتي للسكان المشردين بعيدا عن تمبكتو وكيدال أقوالا ترفض هذا الشكل – الأسلوب من فرض ما يسمونه بالشريعة، يستوي في هذا الرفض المتكرر الرجال والنساء .. المسلمون والمسيحيون وكلهم يرى أن أعراف "مالي" في الفصل بين الدين والسياسة أمور لا يجب التنازل عنها في يوم من الأيام. وفيما يخشى شعب مالي أن يسفر التدخل الأجنبي (من جانب فرنسا أو غيرها) عن عواقب خطيرة بالنسبة لديارهم وأسباب معايشهم إلا أن معظم المشردين من أهل الشمال ممن التقيت بهم ميدانياً في شهر ديسمبر الماضي وقبل وقوع التدخل الفرنسي كانوا قد حزموا أمرهم على أساس أن "مخاطر عدم التدخل تظل أفدح وأسوأ عشرة آلاف مرة من مخاطر التدخل". وعلى نحو ما قالت لي ناشطة في ميدان حقوق الإنسان، في باماكو، وعلى نحو ما عبر عنه شاب من لاجئي "غاو" التقيت به في الجزائر، يقول لسان حالهم: - نحن لا نريد الحرب. ولكن إذا لم يتركنا هؤلاء الناس وشأننا فلسوف يتعين علينا أن نخوض الحرب ضدهم. عن خطر زاحف عبر الصحراء