التقت "البديل" بابنة شهيد الفكر والرأي ،محمود محمد طه ،الذي اعدم بتهمة الردة ، 18 يناير1985،وأجرت معها حوارا حول الأحداث التي شهدتها، قبل وأثناء وبعد اعدام والدها، من خلال الجزء الثاني من الحوار * هل تطبيق القوانين الاسلامية فقط "قوانين سبتمبر" والمسماة بقوانين الشريعة الاسلامية ؛سبب سوء العلاقة بينكم وبين "النميري" ،خاصة أن علاقتكم معه كانت جيدة قبل اصدار هذه القوانين؟ ** نعم، عندما أتى شهر مايو ،كان السودان مواجها بإجازة دستور إسلامى يلتحف قداسة الدين ويستغله لأغراض السياسة ،ولإطالة عمر النظام بالسيطرة على السلطة الزمنية والسلطة الروحية المستمدة من هذه القوانين. وهدد "الأزهري" يومها بأن الدستور الإسلامى ،إذا لم يجز فى الجمعية التأسيسية ،سيقود الشارع لإجازته بالقوة، وهدد ،إذا لم تسر الجمعية في اتجاه اجازته..تحت هذه الظروف جاء "انقلاب مايو" ،وأيده الجمهوريون على أساس أن الباطل المكشوف – حكومة مدنية - خير من الباطل المغطى ،الذى يلتحف بقداسة الدين... * وهل هذه القوانين كانت سبباً في انفصال السودان جنوبا وشمالا؟ ** بلا شك هذه القوانين كانت - ضمن أسباب أخرى - سبباً من أسباب انفصال الجنوب وقد تنبأ والدى بالطوفان ، بقوله:"إن هذه القوانين قد هددت وحدة البلاد وقسمت الشعب في الشمال والجنوب ، بما أثارته من حساسية دينية كانت من العوامل الأساسية ،التي أدت إلى تفاقم مشكلة الجنوب" ،و ذكر ذلك فى كلمته الشهيرة لمقاطعة المحكمة ،بقوله وهو يتحدث عن قوانين سبتمبر: "ثم انها هددت وحدة البلاد" * بعض المفكرين السودانيين يقولون إن حكم الإعدام صدر 1968 أي قبل أن يتولى النميري الحكم؟ ** صحيح هذا الحكم الجائر صدر 1968 من محكمة شرعية (تختص بأحكام الطلاق والزواج والمواريث ) ،وهي غير مختصة بإصدار مثل هذه الأحكام الجنائية،ويكفي أنها لم تستطع إجبار والدى بالمثول أمامها حينذاك ،عندما قاطعها ولم يمثل أمامها ،مؤكدا أنها ليست ذات اختصاص، وإن اختصاصها إنما ينحصر فى النكاح والطلاق. * كان والدك مؤيدا لقيام دولة اسرائيل ومعترفا بها..هل ترين أن هذا الفكر لا يتناسب مع مرحلة فوران المد القومي العربي؟ ** انحاز العرب بقيادة عبد الناصر إلى المعسكر الشرقي – روسيا، عندما مُنع من تمويل مشروع السد العالي، وبذلك ساق العرب لإشعال واذكاء نار الحرب الباردة ،بين المعسكر الغربي بقيادة أمريكا وبريطانيا ،والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، واستغلت روسيا ضعف العرب وعدم توليهم أمر أنفسهم في المفاوضات مع اسرائيل فاستبدت بتغريبهم وتضليلهم واستغلالهم لتثبيت أقدامها في منطقتهم ،وكان العرب يفاوضون من وراء حجاب الاتحاد السوفيتي، ثم ثبوت تفوق اسرائيل العسكري معدات وتدريبا على العرب مجتمعين.. فعمل والدى على اخراج العرب من قبضة المعسكر الشرقي ،ودعاهم للحل العاجل ،وهو المفاوضة المباشرة مع اسرائيل ودعاهم للاعتراف بإسرائيل لأن الانتصار على اسرائيل غير ممكن لأن العرب لا يحاربون اسرائيل وحدها انما يحاربون معها امريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا انظر كتاب (مشكلة الشرق الأوسط تحليل سياسي، استقراء تاريخي، حل علمي الصادر في اكتوبر 1967) ،والحل الآجل المتمثل في عودة العرب إلى ربهم وتكوين الكتلة الثالثة بين الكتلتين الشرقية والغربية.. * ألا ترين أن موقف المثقفين السودانيين من اعدام والدك، كان موقفا متخاذلا وكان يجب عليهم أن يفعلوا أي شيء في سبيل وقف تنفيذ الحكم..ولماذا كان هذا الموقف من جانبهم؟ ** كانت هناك ربكة كبيرة فبعد فترة دامت مدة طويلة ،تحت نظام حكم فرد واحد تدثر بالدين واستغله لإسكات خصومه السياسيين ومؤازر من حركة الإخوان المسلمين بقيادة الترابي ،وهم خصوم تقليديون للأستاذ والجمهوريين.. وكان كل الناس فى حالة من الإرباك لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا. وفى اعتقادي أن معظم المثقفين كانوا فى حالة من الذهول ،وصدموا من هول المصيبة وعدم توقعها. ولابد من القول بأن المثقفين السودانيين والناشطين في المجال السياسي جمعتهم محاكمة الأستاذ محمود ليكونوا نواة لذلك التجمع الذي تحرك عقب تنفيذ الاعدام واستطاع الإطاحة بنظام نميري في السادس من أبريل 1985 . بعيدا عن السياسة لماذا كان يعتنق والدك الفكر الصوفي؟ ** استطاع والدى أن يزاوج بين دعوة الصوفية للمنهج التعبدى النبوى ،الذى اقتضى فى فترة زمنية معينة اعتزال المجتمع والخلوة لله تعالى تعبدا ،وبين الخروج إلى المجتمع والإهتمام بمشاكله، وإيجاد الحلول لها..ولذلك فقد جاءت الفكرة الجمهورية بمنهاج النبى صلى الله عليه وسلم لتربية وتقويم الفرد ،كما جاءت بمنهاج إعداد المسرح لإعانة الفرد لتحقيق حريته وفرديته..فدعا للمجتمع الديمقراطى الاشتراكي الذى تقوم علائق أفراده على المساواة الاجتماعية ومحو الفوارق بين الناس، الفوارق التى تنشأ بسبب اللون، أو العنصر أواللون، أو الدين...إلخ لا يمكن بأي حال من الأحوال وصف هذا النهج بالميتافيزيقي إنه منهج واقعي يعتمد على التعرف على مشاكل الناس وتقديم الحلول الواقعية لها، كمثال لذلك ما قدمه الجمهوريون من حلول واقعية للمشكل الاقتصادي حين كتبوا "ساووا السودانيين في الفقر إلى أن يتساووا في الغنى" وغيره كثير.. Comment *