من عظمة دين الإسلام انه استطاع وفى زمن قليل ان يؤلف بين شعوب بلدان شتى دخلت تحت لواءه بعضها يملك إرثا حضاريا عظيما بالرغم من ان رواد الفتوح الإسلامية الأوائل الذين فتحوا تلك البلاد ونشروا الإسلام بين شعوبها قد جاءوا من بيئة صحراوية خشنة وكان نصيبهم من الحضارة هى اللغة العربية وفضائل اهل البادية. ولكن سرعان ما اندمجت شعوب البلدان التى فتحها العرب تحت راية الإسلام واخرجت من كنوز نفائسها وحضارتها لتجد من يقبل عليها فى نهم من ذوى العقول الواعية الذكية والنبوغ الأخاذ، الذين انكبوا فى لهفة شديدة لتحصيل كافة انواع المعرفة فى شتى مناحى العلم من مختلف الثقافات ليقدموا للإنسانية حضارة إسلامية لها مذاقها الخاص واسلوبها الفريد، ساعدهم فى ذلك استقرار الأوضاع السياسية وحب اولى الأمر للعلم والعلماء وتشجيعهم ومساندتهم ودعمهم المتواصل. فى ظل هذه البيئة الخصبة من العلم والمعرفة نشأ عالم من اعاظم العلماء وفيلسوفا نابها معلما للأجيل هو الشيخ الرئيس "ابو على الحسين بن عبدالله بن الحسن بن على بن سينا والذى اشتهر "بأبن سينا"، وشهدت قرية "أفشنة" بالقرب من بخارى مولد عالمنا الجليل وهى قرية والدته وتنتسب اليها، اما والده فمن مدينة "بلخ" من اعمال خراسان حيث اجمعت جميع المصادر التاريخية بأنه ولد عام 370ه/ 980 م ولكن الخلاف كان حول عام وفاته فبعض المصادر ذكرت انه توفى عام 420 ه والبعض الآخر "وهو الأرجح" انه توفى عام 428 ه/ 1037 م. وبنظرة سريعة على القاب هذا العالم الجليل نستطيع ان نتبين منها عظم المكانة العلمية التى حظى بها واستمرت الى قرون عديدة وحتى الآن فلقب "الشيخ" هو لقب علمى يطلق على كل مشتغل ومتبحر فى امور العلم والفلسفة، اما "الرئيس" فقد اطلق عليه نظرا لإشتغاله بالسياسة وتقلده الوزارة اكثر من مرة، اما "المعلم الثالث" فأطلق عليه نتيجة علمه الغزير وتنوعه واسهاماته فى القضايا المعرفية مما يجعله يحتل المرتبة الثالثة بعد "ارسطو" و"الفارابى" كمعلم للأنسانية. ونظرا لأهمية ومكانة هذا العالم الجليل فقد احتفلت تركيا عام 1937 بالذكرى ال900 لوفاته واصدرت بهذه المناسبة مجلدا ضخما فى استنابول إحتفاءا بهذه الذكرى، وكذلك احتفلت 20 دولة اعضاء بمنظمة اليونسكو بالذكرى الألفية لميلاده عام 1980. تربى ابن سينا فى كنف والده الى كان من كبار رجال الدولة فى عهد الأمير "نوح السامانى والذى كان بدوره محبا للعلم والمعرفة واقتنى مكتبة كبيرة ضمت نفائس المخطوطات وامهات الكتب، فأقبل عليها ابن سيناء فى نهم ولهفة شديدين وادرك الوالد شغف ابنه للعلم والمعرفة فلم يكتف فأحضر له اكابر العلماء فى منزله ليقوموا برعايته وتعليمه وتثقيفه امثال "أبو عبد الله الناتلى"، و"ابى منصور الحسن بن نوح القمرى" و"ابى سهل عيسى بن يحى المسيحى الجيرجانى" فذادوا فى سعة افقه وامدوه بزاد المعرفة التى اكملت شخصيته العلمية وتفردت حتى ذاع صيته وخاطب وده الملوك والأمراء. وقدم ابن سينا العديد من المؤلفات التى اثرى بها الحضارة الأسلامية والتى اصبحت الأساس الذى قامت عليه الحضارة الأوربية الحديثة وتذكر المصادر التاريخية ان جملة ما الفه قد وصل لنحو مائتنان وستة وسبعون مؤلفا ما بين كتب ورسائل وقصائد شعرية "ارجوزة" وتنوعت كتاباتها ما بين العربية والفارسية، ومن اشهر هذه المؤلفات كتابيه فى الفلسفة "الشفاء" والنجاة"، وفى اللغة كتاب "لسان العرب" وفى المنطق كتابى "المختصر الأصغر" و"مفاتيح الخزائن"، وفى الأخلاق "البر والأثم"، وفى علم النفس "المبدأ والمعاد فى النفس، وكتاب "الإشارات" فى الحكمة، وفى الموسيقى "المدخل الى صناعة الموسيقى"، وفى الكيمياء "رسالة فى الكيمياء"، كما صنف فى الأمور العسكرية مثل كتابه "تدبير الجند والمماليك والعساكر وخراج المماليك" و10 اشعار وقصائد فى الزهد وغيره فى النحو كتاب "الملح" وفى تفسير الأحلام كتاب "تأويل الرؤيا". اما عن درة كتبه ومبلغ شهرته والذى اسهم فى ذيوع صيته فى الأفاق كان كتاب "القانون" فى الطب الذى ظل لمدة ثمانية قرون من عمر الطب الغربى احد المصادر الأساسية للحقيقة ومادة تعليمية اجبارية فى الجامعات. هذا بعض من كل لرائد من رواد الحضارة الإسلامية اسهم فى العديد من روافد المعرفة المتعددة وضارع بفكره وكتاباته المتنوعه كبار العلماء الذين اثروا الحياة العلمية وساهموا فى رقى الحضارة الأنسانية ----- *مدير اقليم القناة وسيناء بجريدة الجمهورية، ودكتوراه فى الأثار الإسلامية "كلية الأثار جامعة القاهرة". Comment *