في مثل هذه الأيام، تمر الذكرى العطرة لميلاد عظيم الفلسفة الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن علي الملقب ب"ابن سينا". ولد ابن سينا في صفر (370ه 980م) من أسرة فارسية الأصل في قرية "أفشنة" التابعة لبخاري في ربوع الدولة السامانية "أوزبكستان حاليا" وتوفي في مدينة "همدان" إيران حاليًا سنة 427 ه 1037م . ألقاب كثيرة أطلقت على ابن سينا منها حجة الحق، شرف الملك، الشيخ الرئيس، الحكم الدستور، المعلم الثالث، الوزير، إذ كانت أفكار أبن سينا وعلمه مهداًا لحضارات الغرب حينما كانت أوروبا غارقة في الجهل والظلام والحروب الدينية وغيرها. قدس الغرب ابن سينا، وانشأ باسمه المعاهد والمنتديات والجامعات وصنع له التماثيل وتقديرا لجهوده في بناء الحضارات، بينما لعنه المؤرخون العرب والمسلمون في كتبهم، وأطلقوا عليه أحكامًا قاسية مثل العمل بالسحر والدجل والشعوذة، بل وصل بهم الأمر إلى اتهامه بالكفر في كتبهم، حيث ردد بعضهم أن "ابن سينا كان ملحدا أو زنديقا"، مستندين في ذلك إلى استجابة والده وأخوه للدعوة الشيعية الإسماعيلية، ولكن ابن سينا قد جانب هذا المذهب، ورفضه وقتئذ قائلًا: "أنا أسمعهم وأدرك ما يقولونه ولا تقبله نفسي". حفظ ابن سينا القرآن وألمّ بعلم النحو وهو في العاشرة من عمره، ورغب في دراسة الطبّ، فعكف على قراءة الكتب الطبية، وبرز في هذا العلم في مدة قصيرة، وكان عمره في ذلك الوقت ست عشرة سنة، ودرس على يد ابن سهل المسيمي وأبي المنصور الحسن بن نوح القمري. كانت بدايات دراسته الفلسفية والمنطقية على يد عبد الله النائلي، وكانوا يسمونه المتفلسف، ويبدو أنه لم يكن متعمّقاً في علمه، فانصرف عنه ابن سينا بعد فترة وجيزة، وبدأ يقرأ بنفسه، ولكنه وجد صعوبة في دراستهما، فبذل وقتاً طويلاً كي يفهمهما جيداً، إذ يقول: "ثم توفّرت على العلم والقراءة، فأعدت قراءة المنطق وجميع أجزاء الفلسفة، وفي هذه المدّة، ما نمت ليلة بطولها، ولا اشتغلت النهار بغيره، وجمعت بين يدي ظهوراً". صعب على ابن سينا فهم كتاب ما بعد الطبيعة حتى قرأه أربعين مرة، فيئس من فهمه، ولكن معضلته هذه انفكت عندما قرأ كتاب الفارابي في أغراض ما بعد الطبيعة وهكذا بدأت علاقة ابن سينا الوطيدة بالفارابي وفلسفته. عاش ابن سينا في خضمّ ظروف عاصفة ومليئة بالاضطرابات والتقلّبات السياسية، حيث عاش فترة انحطاط الدولة العباسية، في عهود الخلفاء الطائع والقادر والقائم وغيرهم، وهذا ما جعل البلاد نهباً للطامعين من كل حدب وصوب، فاقتطعت من البلاد مناطق كثيرة، وأقيمت فيها دويلات متخاصمة ومتناحرة فيما بينها. كان ابن سينا إذا تحير في مسألة ولم يجد حلاً لها ، ولم يكن يظفر بالحدّ الأوسط في قياس، كان كما يقول: "ترددت إلى المسجد وصلّيت وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المغلق، وتيسّر المعسر". وينسب إليه أيضاً أنه كان يقول: "وكنت أرجع ليلاً إلى داري وأضع السراج بين يدي وأشتغل بالقراءة والكتابة، فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إليّ قوتي، ثم أرجع إلى القراءة". نبغ ابن سينا في الطب مبكرًا، فعالج المرضى حباً للخير واستفادة بالعلم، وليس من أجل التكسّب، وفتحت له الأبواب على أثر معالجته لمنصور بن نوح الساماني من مرض عجز الأطباء عن شفائه منه، فقرّبه إليه، وفتح له أبواب مكتبته التي كانت تزخر بنفائس الكتب والمجلّدات والمخطوطات، فأقبل عليها يقرأها كتاباً بعد كتاب. ثم لقي رعاية وافية من قبل نوح بن منصور الساماني الذي خلف والده في الحكم، ما جعل ابن سينا يعيش حالةً من الاستقرار النفسي انعكس إيجاباً على نتاجه، فتبوّأ مكاناً مرموقاً من العلم، ولا سيّما في علم الطب وعلم النفس، وقد أضاف الكثير إلى هذه العلوم مما استحدث عنده، وقد كتب في الطبيعيات والهندسة والرياضيات والكيمياء وغيرها من الاختصاصات، مثل "كتاب المختصر الأوسط في المنطق"، و "المبدأ والمعاد"، وكتاب "الأرصاد الفلكية" و"القانون"، ولكن حدثت بعد ذلك اضطرابات توارى على أثرها عند صديق له يدعى ابن غالب العطّار، فصنّف جميع الطبيعيّات والإلهيات ما خلا كتاب الحيوان والنبات.. وابتدأ بالمنطق، وكتب جزءاً منه، ثم أودع السجن وبقي مسجوناً في قلعة "نردوان" أربعة أشهر كتب فيها كتاب الهداية. اشتغل الشيخ الرئيس بعلم الأرصاد ثماني سنوات، وقد حاول في دراساته هذه الوقوف على ما كتب بطليموس، وكتب كتاب الإنصاف في الأرصاد .. أما المجال الطبي الذي لقي فيه ابن سينا شهرة واسعة، فكان متفرداً في تميزه به، حتى إنه اعتمد على الملاحظة في وصفه للعضو المريض وصفاً تشريحيا وفيزيولوجياً، واستفاد من هذا الوصف التشريحي في تشخيص المرض. وهو أيضاً أول من قال بالعدوى وانتقال الأمراض المعدية عن طريق الماء والتراب، وبخاصة عدوى السل الرئوي، وأول من وصف التهاب السحايا وأظهر الفرق بين التهاب الحجاب الفاصل بين الرئتين والتهاب ذات الجنب . وهو أوَّل من اكتشف الدودة المستديرة أو دودة الإنكلستوما قبل الطبيب الإيطالي روبنتي بأكثر من ثمانمائة سنة، وهو أيضاً من وصف مرض الجمرة الخبيثة وسماها النار المقدس. وكان أحد أوائل العلماء المسلمين الذين اهتموا بالعلاج النفسي، وبرصد أثر هذا العلاج على الآلام العصبية وآلام مرض العشق خاصةً، وقد مارس ابن سينا ما اهتدى إليه من علاجات وطبّقه على كثير من المرضى. وفي علم الطبيعة، اكتشف ابن سينا أن الرؤية أو الضوء سابقة على الصوت كضوء البرق مثلاً يسبق صوت الرعد، فنحن نرى ومض برقه ثم نسمع صوته. من أشهر كتبه في الطب "القانون"، الذي أصبح أحد مراجع جامعات أوروبا الأساسية، حتى إنه درِّس في جامعتي "مونبليه" و"لوفان" إلى نهاية القرن السابع عشر. وكان هذا الكتاب مع صاحبه كتاب "المنصوري" للرازي، مرجعاً أساسياً يدرَّس في جامعتي فيينا وفرانكفورت طوال القرن السادس عشر. له أيضاً كتاب " الشفاء"، وهو من موسوعات العلوم ودوائر المعارف، في ثمانية عشر مجلداَ، محفوظة منها نسخة كاملة في جامعة أكسفورد، و"النجاة موجز الشفاء" وضعه الرئيس رغبةً في إرضاء بعض أصفيائه، وقد طبع الأصل العربي في روما عام 1593م، وهو في ثلاثة أقسام؛ المنطق والطبيعيات وما وراء الطبيعة، وليس يوجد فيه القسم الخاص بالعلوم الرياضية التي أشار إليها ابن سينا في فاتحة الكتاب، وقال بضرورة ذكرها في الوسط بين الطبيعيات وعلم ما وراء الطبيعية . Comment *