صحيح... عن ماذا ندافع جميعاً؟... هل ندافع عن مصالح شخصية ضيقة؟ أم عن مصلحة جماعة؟ أم عن مصلحة عامة منبثقة من أهداف الثورة؟ الحقيقة أن التيارات الثلاثة موجودة على الساحة السياسية المصرية، وتعارض هذه المصالح هو ما يسبب ارتباكاً لدى الكثيرين، وخاصة ممن هم غير متابعين بشكل متواصل لما يحدث في الساحة السياسية، وبالتالي يصبحون فريسة لأنصار كل تيار، بل ويرددوا ما يقولونه من آراء بدون فهم. الحقيقة أن كلا من الفريق الأول الساعي إلى تحقيق مصالح شخصية ومنها الرغبة في الوصول للسلطة والفريق الثاني الذي يسعى إلى تحقيق مصالح الجماعة من خلال المحافظة على المكتسبات والمنافع التي حصلوا عليها حتى الآن مع السعي لتحقيق المزيد، كلاهما يتغنى بأنه في مسعاه هذا يسعى إلى تحقيق المصلحة العامة وأهداف الثورة. وبقاء الصراع بين هذين الفريقين من شأنه تعقيد الموقف، فالثوار والشارع يرغبون في البناء على أسس صحيحة، حيث يسعون إلى بناء نظام سياسي جديد يكفل مستقبل أكثر أملا وإشراقا، وأرى أن هذا البناء لا يستقيم مع نخبة تعيش بالفعل مستقبلها، بينما الثوار يتطلعون إلى مستقبل آخر مختلف عن حاضرهم الحالي الذي رفضوه بثورتهم. كما يقول الكثيرون أن الشارع أضحى الفاعل الرئيسي في الأحداث، فهو بالفعل القادر على إجبار النخبة سواء المنتمية للنظام القديم أو للتيار المدني أو لجماعات الإسلام السياسي للانصياع إلى مطالبه، من خلال إما إجبارهم على تغيير منظومتهم الفكرية - وإن كان ذلك مستبعدا بشكل كبير مع هذه النخبة- وإما ترك هذه النخبة للصراع بين بعضهم البعض لكي يستنفذ ويكشف كل طرف الآخر في عملية الفرز التي بدأت مع بداية الثورة. أما الشارع فطريقه مختلف... الشارع عاش في دوامة من دائرة البحث عن لقمة العيش ومحاولات إشغاله بوسائل إعلام تقوم بالتنويم المغناطيسي لإلهائه عن مشاكله، ومن ثم فالشارع يدافع عن حياة كريمة وحرية تعبير وعدالة اجتماعية، وتبلورت هذه الأهداف في ضرورة إسقاط النظام السابق بمنظومته القانونية والقيمية لبناء نظام سياسي جديد يقوم على القانون.. وهذا المعيار هو ما يمكن تفسير حركة الشارع التي لم تصل إلى كلا الفريقين سواء نخبة السلطة أو نخبة المعارضة في عدد من المراحل التي مرت بها الثورة كالتالي: المرحلة الأولى: مرحلة التعديلات الدستورية: تبنى الشارع الثوري أهمية وضع الدستور أولاً وذلك لتحديد على أي أساس سوف يتم اكتمال مؤسسات الدولة وليحدد من خلاله مستقبل بلدنا، بالفصل بين السلطات وإنهاء هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، اللذين أدت سياسات النظام السابق إلى وصول الفساد إليهما من خلال انتخابات مزورة أو تعيين الموالين للنظام في مجلس الشورى، كما ظهر في السلطة القضائية قضاة موالين للنظام وآخرين موالين فكريا للإخوان المسلمين (وهو ما سيتم توضيحه في موطن آخر)، كما عملت السلطة التنفيذية على تعيين أنصارها في كل المناصب القيادية كما أصبح الولاء هو معيار التعيين وليس الكفاءة، فضلا عن عسكرة كل مؤسسات الدولة بتعيين العسكريين من الشرطة والجيش في كافة مفاصل الدولة، وقد انعكس ذلك في تردى أداء كافة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد انعكس هذا الواقع قبل الثورة على مطالب الثوار، وذلك لتفاديه في النظام الجديد، وهذا ما لم تكفله مسودة الدستور المطروحة للاستفتاء مما يعني أن السلطة الحاكمة أبعد ما يكون بدستورها عن مطالب الشارع الذي رأى أن الفصل بين السلطات سوف يمكن كل سلطة من مراقبة الأخرى دون تقييد عملها، وذلك لخدمة المواطن وحفظ حقوقه...أي أن الشارع الثوري يريد إعلاء قيمة الإنسان وأن كل مؤسسات الدولة في خدمته لتحقيق حياة كريمة وعادلة وآمنة له في النهاية. فما كان يدافع عنه الشارع هو سلطات ثلاث تخدم المواطن ولا تتعالى عليه ولا تقهره، ولكن صراع الإرادات كانت نتيجته انتصار إرادة السلطة ممثلة في المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومن ورائهم مستشاريهم من الفلول والإخوان، فكان فرض الاستفتاء على التعديلات الدستورية بدلا من العمل على كتابة دستور وانتخاب لجنة تأسيسية بالاقتراع المباشر من الشعب، خاصة أن استمرار مسلسل تزوير إرادة الشعب قد انحصر وهذا ما أثبتته الجولة الأولى من الاستفتاء التي شهدت كافة أنواع التزوير القديمة والمبتكرة ولكنها فشلت، مما يثبت أن الوعي المجتمعي في تزايد. كما أن موقف السلطة القضائية تجاه الإعلان الدستوري يثبت تمسك الغالبية العظمى من المؤسسة القضائية على استقلال القضاء، فضلا عن رفضها الإشراف على دستور غير توافقي فيه انتصار لإرادة الثورة وهو ما يتسق مع ما يدافع عنه الشارع، كما أن موقف النيابة العامة تجاه النائب العام تعكس وصول الثورة وآلياتها من الاحتجاج والاعتصام للحيلولة دون تخطي القانون وتكرار نفس طريقة تعيين النائب العام سواء من قبل النظام السابق أو النظام الجديد التي تعكس أيضا انقضاض السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، وهو ما ترفضه الثورة والشارع. ويمكن القول أن الثورة باتت تنتشر في كل مؤسسات الدولة التي رغم أن الفساد والمحسوبية طالتها إلا أنه من الثابت أن من يؤمنون بفكر الثورة باتوا الأكثر عددا في مؤسسات كثيرة ويؤكد أيضاً أن الأزمات التي تمر بها الثورة تصب في صالحا وليس ضدها. أيضا هناك حقيقة أخرى وهو أن السلطة لم تدرك بعد أن الشعب ما بعد الثورة ليس هو الشعب ما قبل الثورة، فالشعب هو الذي بات يؤكد على انتمائه لهذا البلد وأنه الفاعل الأساسي في تغييرها وبنائها، وأنه أصبح مسيسا بفضل الزخم الثوري وغير قابل للترويض والرضوخ للسلطة وعنيد في الحق وماسك على مستقبله كالماسك على الجمر، ورافض للرياء والتملق للسلطة التي رأى أنها باتت خادمة له بعد الثورة. ومن ثم كان عدم إدراك السلطة عن ماذا ندافع في لحظة رفض الشارع للتعديلات الدستورية، هو دولة العدل التي يكفلها القانون من خلال وضع دستور يعبر عن كافة طوائف الشعب المصري وطموحاتها وأماله ورؤيته للمستقبل... ومع ذلك فهذا الشعب الواعي قادر على تغيير دفة الأمور لا محالة... في المقال القادم مع المرحلة الثانية. Comment *