نعم نحن نريدها.. وبشدة.. إنها الضامن الوحيد للخروج من تلك الأزمات التي نعانيها والتي ظلت ملازمة لنا على مدار سنوات طويلة، ولا أظن أن من بين المصريين من يدعي أنه يرفض الشريعة أو يستنكر وجودها بحياتنا العملية. وعلى قدر الثقة المطلقة في الشريعة الإسلامية تأتي إشكالية التطبيق، وهي إشكالية مزدوجة ذات شقين متلازمين أولها: آلية التطبيق.. وثانيهما: كيفية التطبيق أو بالأحرى "منفذو التطبيق". لكن وقبل الدخول في تناول هاتين الإشكاليتين علينا أن نسأل.. ما هي الشريعة؟ ربما إذا وضعنا تعريفاً سليماً اختزل ذلك علينا واختصر كثير من الجدل والاختلاف. عرف الفقهاء الشريعة بأنها "جملة الأوامر الإلهية، التي تنظم حياة كل مسلم من جميع وجوهها، وهي تشتمل على أحكام خاصة بالعبادات والشعائر الدينية، كما تشتمل على قواعد سياسية وقانونية، وعلى تفاصيل آداب الطهارة وصور التحية وآداب الأكل وعيادة المرضى". وعلى ذلك تصبح الشريعة هي الحكم بكل ما أنزل الله في كتابه، وما ورد عن سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم في سنته. لا يقتصر الأمر إذن على مجرد تطبيق الحدود (وإن كان أمراً لا يجب نكرانه) فالشريعة - وفقاً للفقهاء - هي العدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص والتوزيع العادل للثروات.. وحتى الحرية يستوي في ذلك أن تكون حرية فكر أو حرية عقائدية تدخل في الشريعة الواجب تطبيقها على الجميع. حسناً، فلنقف الآن أمام الإشكالية الأولى "كيفية التطبيق".. وعلينا هنا أن نتساءل "أي جزء من الشريعة أولى بالتطبيق في الوقت الحالي؟". يقول ناجح إبراهيم القيادي بالجماعة الإسلامية،"إن الحدود هي آخر ما أنزل في الإسلام وأن التدرج في تطبيق الحدود ليس فقط سنة شرعية ولكن سنة كونية ومن يحاول أن يعارض السنة الكونية تقطع رقبته فحد الخمر أنزل على أربع مرات وحد الربا أنزل على ثلاث مرات". ولا يفوتنا هنا أن نضرب مثلاً بما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أوقف العمل بحد قطع يد السارق حين حلت المجاعة بعام الرمادة.. ولا أحسب أن أحداً يمكن أن يزايد على إيمان عمر وعدله ووعيه الذي ظهر جلياً في إيقاف الحد وصولاً إلى "حد الكفاف"، لكن المثير في الأمر أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين عاصروا الواقعة لم يُنقل عن أي منهم أنه أنكر ما فعل عمر أو طالبه بإعادة تطبيق الشريعة "فوراً". إذن، ووفقاً لرأي القيادي بالجماعة الإسلامية فإن تطبيق الحدود يجب أن يكون تدريجياً بذات المنهج الذي أنزلت به، ولا سبيل ها هنا لأن نأخذ بالرأي القائل إن الشريعة أنزلت بالتدريج على الصحابة لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، وهو الرأي الذي إن أصابته الصحة من جانب فقد جاوزته من جانب آخر. صحيح أن هناك بعض الأحكام التي أنزلت تدريجياً لأن المسلمين الجدد آنذاك لم تتأقلم "نفوسهم" مع الأوضاع الجديدة، وحكمة الله هاهنا تتجلى في تدرج الأحكام حتى يتسقوا مع القانون الجديد فمثلاً تحريم الخمر كان يتحتم أن ينزل تدريجياً لأنه ارتبط ب"عادة" يجب التخلي عنها تدريجياً. لكن وفي المقابل فإن هناك أحكاماً وقرارات تم اتخاذها تدريجياً لأنها تتعلق بالصالح العام.. وأبرز الأمثلة هنا "تحريم الربا" الذي يتعلق باقتصاديات دولة ناشئة. وما أشبه الليلة بالبارحة، فللأسف الشديد نحن نُصنف في خانة (حديثو العهد بالإسلام) وإن كان قد مر عليه ما يربو عن الألف وأربعمائة عام، وللأسف الشديد أيضاً فإن اقتصاديات بلدنا أمست تُصنف ضمن "الدول الناشئة" وهو ما يدفعنا إلى التفكير بروية في أي قرار يتخذ والعمل وفق المنطق التصاعدي.. فما خُلقت الدنيا في يوم واحد رغم قدرة الله الكاملة على ذلك. أما إن تحدثنا عن إشكالية التنفيذ - وأشخاص المنفذين - فعلى الجميع أن يعلم أن تطبيق القوانين الشرعية والوضعية هو أمر منوط بولي الأمر وهيئاته المعاونة، فلا يجوز أن نسمع عن واقعة إقامة حدٍ هنا أو هناك لأشخاص لا يملكون سلطة تنفيذ القانون حتى وإن كان مصدر التشريع الرئيسي هو الله جل في علاه. والحق أن اقتصار تنفيذ القوانين الشريعة - الحدود على وجه الخصوص - على أصحاب السلطة التنفيذية هو أمر يصعب تنفيذه في ظل حالة "الجهل المتشدد" التي يتمتع بها بعض من يبرزون على الساحة في الوقت الحالي، فكثيرٌ ممن لاذوا بميدان التحرير الجمعة الماضية لا يعرفون شيئاً عن الشريعة والأمر يقف لديهم عن حد "إقامة الحد" لا غير، ليس ذلك فحسب ولكن على قدر علمهم الناقص.. يأتي تشددهم. روى لي الزميل أيمن عبد الحميد الصحفي بوكالة أنباء الشرق الأوسط أنه أثناء تغطيته لمليونية تطبيق الشريعة أجرى العديد من الحوارات مع بعض المتظاهرين، ولأنه أعسر فقد شرع في تدوين تصريحاتهم بيده اليسرى، إلا أنه فوجيء باثنين من الواقفين يطالبانه بالكتابة بيده اليمنى "لأن في اليمين بركة" !! فما كان منه إلا أن مزق الأوراق ورحل... وهكذا فقد أصبح هناك خلط عجيب لكل الأمور التي يجب إيضاحها والفصل فيها قبل البدء في "تطبيق الحدود الشرعية". يقول الإمام محمد الغزالي رحمه الله "إن انتشار الكفر في العالم يحمل نصف أوزاره متدينون بغضوا الله إلى خَلقه بسوء صنيعهم وسوء كلامهم". Comment *