كانت بلاغة الفلاح الفصيح وحسن عرضه لقضيته ومنطقه فى الحوار المسوغ الذى جعل الحاكم يستمع إليه ويقتنع بعدالة قضيته، وبهذا كان حسن حديثه وامتلاكه لناصية القول خير معين على إنصافه، ولقد تجسد ذلك فى " شكاوى الفلاح الفصيح" رائعة المخرج الكبير الراحل " شادى عبد السلام " والذى عرض فيها نموذجاً لفلاح مصرى مفوه فى حقبة من حقب تاريخنا القديم . وفى العصر الحديث شهدت مصر خطباء كبار ومتحدثين بارعين استطاعوا أن يجمعوا العقول والقلوب من حولهم، وتمكنوا بحسن منطقهم من عرض رؤاهم وأفكارهم، ولن ينسى التاريخ المصرى الحديث والمعاصر خطيب الثورة العرابية "عبد الله النديم" ولا "مصطفى كام " ولا" محمد فريد" أو"سعد زغلول"، كما نذكر جميعا التفاف العالم العربى كله حول أحاديث وخطب "جمال عبد الناصر" التى كانت تعكس طموحات وتطلعات العالم العربى فى فترة التحرر من ربقة الاحتلال الغربى، وبعد ذلك ورغم الرفض الشعبى العربى له، كان السادات متحدثاً بارعا ًومحاورًا شديد المراس، ثم جاء مبارك الذى كان اعتماده فى الأغلب الأعم على الخطابات المعدة له سلفاً، وكان يقدم أداءً تقليدياً إلقائياً لا يعكس قدرة على الإقناع ولا يقدم موهبة فى الخطابة، لكنه كان يقدم لغة حوار مقبولة، حتى عندما كان يخرج عن سياق النص المكتوب له كان يقدم جملاً وكلمات تبعث على الضحك – الذى يقترب من السخرية لما به من لا معقولية أحياناً – ونذكر جميعاً حواره مع إحدى العاملات بمصنع قام بزيارته، إذ سألها : عندك كام عيل؟ وبعدما أخبرته السيدة بعدد أولادها أردف متسائلاً: على كدة تبقى متجوزة ؟! ولقد كنا جميعاً نتندر على مثل هذه المواقف التى تدل على وعى الرجل ومدى تقديره للظروف المحيطة به ،حتى جاء الدكتور مرسى وصعد إلى سدة الحكم وصدمنا منذ أحاديثه الأولى صدمات عدة. قدم الرئيس مرسى ما يقرب من الخمسين خطاباً منذ توليه الأمر، بمعدل خمسة عشر خطاباً فى الشهر، والحق أن الرجل لديه نزعة شديدة للخطابة ويمتلك قاموساً لغوياً لا بأس به، اكتسبهما بالطبع منذ فترة تدريبه ككادر إخواني صغير حتى صار من كبار القيادات فى الجماعة، ونجده يستهل أحاديثه دوماً بنفس الاستهلالات التى يستخدمها عادة خطباء المساجد، خاصة الإخوان منهم، ومنذ خطاب الرئيس الأول فى ميدان التحرير عقب إعلان فوزه فى انتخابات الرئاسة، ذلك الخطاب الذى فتح أثناءه سترته وأعلن انه لا يرتدى قميصاً واقياً، أى أنه يشعر بالأمان وسط الناس، وأنه لن يحجبه عنهم بعد ذلك حجاب، منذ ذلك الخطاب والرئيس يصر على تقديم أداءً تمثيلياً انفعالياً لا يتماشى مع هيبة ووقار منصبه، هذا بالإضافة لملمح آخر مهم فى هذا الخطاب إذ أرخ الرئيس يومها للكفاح الوطنى بفترة العشرينيات من القرن العشرين – نشأة جماعة الإخوان عام 1928 – ثم واصل سرده لمراحل النضال حتى بلغ الحديث للستينيات فقال "وما أدراكم ما الستينات – إشارة لنتائج الصدام الذى حدث بين الجماعة وبين نظام يوليو عقب محاولة اغتيال عبد الناصر الشهيرة فى ميدان المنشية، بعد شهر عسل دام بينهم وبين العسكر منذ يوليو 1952 ، إذن فالدكتور مرسى هنا ومن قلب ميدان التحرير يوجه حديثه للإخوان المسلمين وليس لشعب مصر. ولعل خطاب الرئيس فى افتتاح قمة دول عدم الانحياز فى طهران تعكس عدم وعى بالموضع ولا بالموقف الذى هو فيه، إذ وجدناه يقدم استهلالاً تقليدياً وكأنه فوق منبر ويقدم خطاباً دينى المسحة فى مؤتمر سياسى الوجهة، كما كان تأكيده على تقديم خطاب ربما يستفز المزاج الشيعى – ربما ظناً منه أنه ينتصر للسنة – يعكس خفة فى تقدير الموقف، إذ ما هكذا يكون الحوار ولا هكذا تكون الصيغة التى يتحدث بها رئيس دولة فى محفل سياسى ذو صبغة دولية لا وجود للسجال الدينى أو الصراع المذهبى فى جدول محاورة ولا فى أجندته. إن تحليل مضامين وطرق إلقاء الخطابات السياسية والحوارات التى يجريها القادة والرؤساء مجال علمى له مناهجه وأساتذته على مستوى العالم وهناك شركات وكيانات متخصصة فى تقديم دورات للساسة والمشاهير فى كيفية التحدث وإدارة الحوار، بل وكيفية استخدم الإيماءات وحركة اليدين وما إلى ذلك من مقومات الحوار، ولهذا فأعتقد أنه يتوجب على الرئيس مرسى أن يخضع لإحدى هذه الدورات حتى يتلافى ما بخطاباته وأحاديثه من مشكلات جسيمة تترك أثراً سلبياً لدى المتلقى بحيث نجده يستخدم جملاً حوارية تحمل معانٍ عكس ما يود قوله ،ولعل خطابه الأخير أثناء زيارته لأسيوط - فى حراسة 7000 جندى – تعكس هذا، فالرجل لوح بأنه من الممكن أن يدعو إلى ثورة جديدة ؟! كما أعلن عن فتح حساب مصرفى للتبرع لمشروع النهضة ودعا الفاسدين للتطهر من آثامهم بأن يودعوا فيه تبرعاتهم! والسؤال هنا .. على من سيدعو الرئيس للثورة ؟ فهل سيدعو الناس للثورة ضده وضد الإخوان ؟ أم سيدعوهم للثورة ضد القوى الثورية الأخرى التى تختلف مع الإخوان والتى تقف ضد سعيهم لاختطاف مصر وهم الذين أسماهم مرسى ..العابثين، وهو هنا يرجعنا مرة ثانية للفرعنة التى تلبست السادات فى أخريات سني حكمه حين أصبح الشعب شعبه والجيش جيشه والبلاد بلاده, أم أن الرئيس هنا يوجه خطابه للإخوان الذين سبق وخاطبهم من قبل من قلب ميدان التحرير على أساس أنهم هم وحدهم المكافحون المناضلون؟. وإذا كان الرئيس قد أعلن أن الحساب المصرفى للفاسدين فهل يتوقع سيادته أن يذهب إليه أحد ما كى يودع فيه مالا ويقول: أنا فاسد يا ناس ونفسى أتطهر على يد الرئيس؟! الخطابات الرئاسية ليست بلاغة وبديع واستدعاءات للتراث اللغوى أو للذائقة الدينية، بل هى وثائق وصكوك ومفاتيح للعديد من القضايا، كما تعد انعكاساً للفكر والتوجه الرسمى للبلاد، وبهذا فالدكتور مرسى منذ توليه حكم مصر وهو يقدم خطابات بلاغية تقليدية منزوعة المضامين السياسية أو الفكرية الحقيقية، كما أنه للأسف الشديد يقدم أحياناً كثيرة معلومات يثبت الواقع عدم صحتها، وإذا رجعنا لخطابه الشهير فى إستاد القاهرة بمناسبة احتفالات ذكرى نصر أكتوبر المجيد، سنجده قد أقر بتنفيذ جزءاً كبيراً من برنامجه الانتخابي، لكن على أرض الواقع نجد الأمن مازال منفلتاً – وهاهى سيناء تدور فى فلك الفوضى ومهدده بالضياع لكنها تقاوم – ونظرة سريعة للأسواق سنقف على مدى العبث والتوحش فى أسعار السلع الغذائية، و يلحظ الجميع ارتفاع معدلات البطالة وعودة موجات الهجرة غير الشرعية وتوابيت الموت لتتصدر نشرات الأخبار يوميًا، فازداد الشعور بعدم الأمان وتراجع مؤشر الأمل الذى كان قد بلغ ذراه أثناء ثورة يناير وعقب خلع مبارك، وها هو اقتصادنا فى ظل حكم الإخوان قوامه القروض والودائع والإعانات، وكأن "مشروع النهضة " هو نص بلاغى خطابى يكرس لاستجداء مصر الصدقات المالية من هنا ومن هناك. عيب كبير أن نجد رئيس البلاد يقدم هذه السيولة فى الأحاديث والخطب ولا نخلص منها إلى شيء واضح يمكننا مناقشته أو التعويل عليه، وإذا استمر الحال على هذا المنحى وإذا لم يتدارك الرئيس ذلك فخير له أن يصمت وأن يترك متحدثاً رسمياً ينوب عنه فى ذلك، فالصمت فى أحيان كثيرة يكون أبلغ من الكلام الذى لا يقدم شيئاً والذى يترك جروحا غائرة على وجه مصر ما بعد ثورة عظيمة مثل ثورة 25 يناير. Comment *