الدولة قائمة في شكلها حتى الآن على الاستبداد، والاستبداد في حقيقته سالباً للمعنى، لأن المعنى حرية، لذا يحاول المستبدون إضفاء معنى على استبدادهم، والاستبداد بأي صاحب معنى آخر يشرع لاستبداد آخر غير استبدادهم، وأيام الحرب الباردة كانت دول الديمقراطية وحرية التعبير لا تسمح للشيوعيين بتلك الحرية ولا بإقامة أحزابهم بحرية ونشر أفكارهم، لأنهم يهدمون معنى استبدادهم لاستبدادهم. ودائما ما تكتسب الفكرة التي يقع عليها الاستبداد خصوبة وإنسانية، وتحقن بالمثال والكمال، وتجد أصحابها معتقلين أو شهداء، ولغتها هي الأكثر إبداعاً في تراكيبها وتجديدها للبنية اللغوية، والفكرة التي تقوم بالاستبداد هي الأكثر رسمية ويعتنقها أصحاب السلطة والمناصب والمنتفعين بها، والمغرر بهم من وقعوا تحت استبداد معناها، واقتنعوا بادعاء أصحابها، وبحججها التي تصطبغ باليقين، وإذا ما دار الزمان وتمكنت الفكرة الواقع عليها الاستبداد، من ممارسة الاستبداد ستمارس على الأخرى ما كان يمارس عليها منها. فبعد استيلاء الإخوان على السلطة اكتسبت الليبرالية والاشتراكية حساً إنسانياً وقومياً خسرته الجماعة في استبدادها الذي تمارسه. حرية ثورة يناير الثورة حرية، وحينما خرج الشعب وصرخ "الشعب يريد إسقاط النظام"، كانت كلمة لها معنى، معنى حقيقي قائم على الحرية، وليس معنى زائف قائم على الاستبداد والادعاء، كان الشعب كله الفنانون والمتعلمون والجهلة والفقراء والأغنياء، الشيوخ والعلمانيون، ولكن عندما تتحول الثورة إلى دولة، كما وعد مرسي فور فوزه بالانتخابات الرئاسية، لابد أن يخرج طائفة من هذا الشعب تملك المال والسلاح والنفوذ، لتقول – أو بمعنى أدق تدعي – أنها هي الشعب الذي أسقط النظام، وحتى تكتسب تلك الفكرة – أو الدولة – معناها لا بد من الاستبداد ببقية طوائف الشعب، ولا بد أن يكون لهذا الاستبداد معنى يستطيع أن ينطلي على بعض الناس زيفه وادعاؤه، فكان الهجوم على المسيحيين – رغم مشاركتهم الواضحة في الثورة- بأنهم أهل كتاب وكفرة ويكرهون الإسلام، واليسار – رغم مشاركته الواضحة في الثورة – يأخذون أموالاً من الخارج – كما قال عصام العريان وهو يمارس استبداد الدولة ويبرره - لتجد كل الدولة ملتحين وذو ميول إسلامية، وبرر أصحابها بأنهم متقون أتكرهون أن يحكموكم أناس يعبدون الله، هكذا وسينتهي الأمر بالآخرين إلى الإقصاء والسجن وأحياناً الإعدام على حسب درجة مقاومتهم للدولة، ليصبح الشعب الذي أسقط النظام في النهاية جماعة الإخوان. التفكير والاستبداد حتى التفكير نفسه قائم على الاستبداد، لا بد من فكرة أولية تمارس عليك استبدادها فتوقن بها، ولا تخضعها للنقاش، وتقتل أو تسفه على أقل تقدير من يناقشك فيها أو يشكك من مصداقيتها، تجد الإسلامي مؤمن بالله ورسوله والشريعة، والليبرالي يؤمن بالحرية الفردية وأن يكون الإنسان ذاته ولا تفرض عليه أي فكرة، والشيوعي يؤمن بحق الإنسان في الحياة والعمل والزواج والسكن، ويقدس الطبقة العاملة المكافحة، ويعتبر حقوقهم من المقدسات، ناقش الشيوعي في أي شيء آخر سيتسامح معك فيه حتى لو كان الدين أو الحريات، ناقش الليبرالي في أي شيء ما عدا الحريات الفردية سيتسامح معك فيه حتى لو كان الدين أو حقوق الإنسان المادية من أكل وشرب وسكن، ناقش الإسلامي في أي شيء الحريات الفردية، حقوق الإنسان الأساسية، إلا الدين حتى لو كان مجرد شكله السياسي، لذا نجد معظم الدول الإسلامية مثل السعودية وغزة وأفغانستان سابقاً، لا حريات فردية فيها ولا تقديس لحقوق الإنسان المادية، ونجد الدول الشيوعية لا حريات فيها ولا تدين – إلا قليلاً - وتجد الدول الليبرالية لا تحترم فيها حقوق الإنسان المادية، من مأكل ومشرب ومسكن، ولا الأشكال الدينية. شهيد الاستبداد وشهيد الحرية ومن سخرية الاستبداد، أن يكون دم الشهيد الذي يدعو إلى معنى مخالف للفكرة التي تمارس الاستبداد، بلا ثمن ورخيص ويغيب إلى النسيان، ولكن دم شهيد الفكرة التي تمارس الاستبداد القداسة والمعنى والإلهام، ونلمح هذه السخرية من دولة الإخوان، فالشهداء الذين ماتوا في الثورة التي دعت إلى معاني لا تقوم عليها دولتهم العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ضاعت دمائهم في محاكمات هزيلة ونسي أصحابها وأهلها، ولكن دم الشهيد حسن البنا الذي يمتد لعشرات السنين القداسة بالنسبة إلى الجماعة التي تمارس الاستبداد، لذا خرج من يريد إعادة فتح ملف "استشهاد" حسن البنا على النقيض من شهداء الثورة التي أتت بدولتهم، فالأخير هو شهيد الفكرة التي تمارس الاستبداد الآن. أخلاقيات الاستبداد كثيراً ما يشبه الصوفيون النفس بالدولة، فكما على الحاكم أن يكون صالحاً في دولته، على الإنسان أن يكون أخلاقياً في نفسه، ولذا كانت الأخلاق قائمة على الكبت – وهو ما أعرفه بالاستبداد الداخلي للإنسان- وكان صلاح الحاكم قائم على الاستبداد، الإنسان يجب أن يقصي بعض الشهوات أو الصفات التي تحبها النفس، لأجل بعض الأخلاق أو الصفات التي يفرضها الضمير – الأنا الأعلى الذي يأخذ سلطته من العائلة - والحاكم الصالح عليه أن يقمع الفاسدون أو البشر الذين يحملون أفكاراً لشكل دولة أخرى منافي لدولته أو يهددون بأفكارهم دولته، ولذا وجب هنا الانضباط والصيام والالتزام لتطويع النفس، ولزم هناك الشرطة والمعتقلات والرصاص المطاطي لتطويع الشعب، فكانت دولة وكان الخلق القويم. لذا بما أني أعتبر كتابتي هذه حرية، وتبحث عن المعنى الحقيقي الذي لا يستبد بنقيضه، لأن كل معنى يكتسب معناه من الانتقاص بنقيضه والاستبداد بصاحبه فهو معنى زائف، وأنا إذ أكتب بهذه الطريقة لا أدعي يقيناً، فأنا لا أطرح أفكار لتقتنع بها، وإنما أحاول بطرحها أن أصل أنا وأنت أيها القاريء إلى المعنى الحقيقي والحرية، وأنا بذلك أشكل تهديدا على الدولة لأن أفكاري تشرع لدولة أخرى فوجب الاستبداد بها وقمع صاحبها، حتى تستمر، أريد أخلاقاً لا تقوم على الأنا الأعلى، ولكن على الحرية والمعنى والذات التي لا نقيض لها، أفكاري أطفال لم تتلق تعليماً من العائلة ولكنها فقط تستمتع بالتعبير عن نفسها في الضحكات والجري والسؤال والدهشة، إنها ليست أفكار كتاب يمتلكون اليقين، ولكن أفكار أطفال ممتلئين بالإثارة والدهشة والسؤال، عسى أن تنضج طفولتهم ودهشتهم وإثارتهم وسؤالهم، فكرة ودولة وخلق. Comment *