كان بيان 30 مارس (1968) بحق "الميثاق في المعركة"، ونحن اليوم في أشد الحاجة إلى "الميثاق في مصر 25 يناير". حينما قدم قائد ثورة 23 يوليو جمال عبد الناصر "ميثاق العمل الوطني" في 21 مايو عام 1962، أي بعد عشر سنوات بالتمام من قيام الثورة في 23 يوليو عام 1952، أعلن: أنه سيعاد النظر فيه كل عشر سنوات، ولكن جمال عبد الناصر رحل بعد ثمان سنوات، في 28 سبتمبر عام 1970، ولم يعاد النظر في الميثاق، بعدما تحولت ظروف مصر إلى النقيض في كل شئ، مع تمكن القوى المضادة للثورة من الوثوب إلى السلطة عبر النظام الذي ترأسه السادات، وفي ركابه العصبة والتحالفات الرجعية التي مثلت تلك الثورة المضادة، تدريجياً منذ 1971، وجذرياً منذ 1974، واستمر النظام بعد مصرع السادات في 6 أكتوبر عام 1981. لقد أسس ذلك النظام الرجعي الفاسد، أنور السادات، الذي تقدم المشهد الكارثي والكابوسي كونه الوجه القبيح والملائم للثورة المضادة، وبعد أن أسس النظام وسقط قتيلاً في حادث المنصة أمام كاميرات وإعلام العالم، كرس النظام من بعده تابعه "مبارك"، إن مبارك هو الحاكم البليد العنيد، الذي تسلط وسلب ونهب هو وأسرته وعصابته الفاسدة الفاشية، ومن ورائه الاستعمار الأمريكي والصهيوني، مدعماً ومعضداً (باعتباره كنزهم الاستراتيجي كما وصفوه!)، واستمر حكمه طويلاً جداً، لمدة ثلاثين سنة كاملة، منذ مصرع السادات، في 1981، حتى قيام الثورة المصرية الشعبية الكبرى في 25 يناير عام 2011، التي أنجزت أول ما أنجزت وبسرعة (خلال ملحمة الثمانية عشر يوماً في ميدان وساحات التحرير) خلع مبارك، وإن بقى أمامها بعد ذلك الكثير جداً لتنجز، وتجتاز، وتتجاوز. هكذا ما يقارب الأربعة عقود، ما بين الطاغية الصريع، والطاغية المخلوع، حدث فيها ما وصفه بمرارة وحدة ودقة مفكر وفيلسوف عصر ثورة يوليو العالم النبيل جمال حمدان، من ان مصر خلال هذه السنوات والعقود: لم تكن فيها "حركة التاريخ" حتى إلى الوراء.. بل إن حركة التاريخ فيها "إلى أسفل"!!. بعد عشر سنوات من صدور ميثاق العمل الوطني في عام 1962، كان سيدعو جمال عبد الناصر المجتمع بكل قواه الشعبية إلى إعادة نظر شاملة في الميثاق، ومناقشة من جديد على ضوء التغييرات الكبرى في المجتمع، سواء على صعيد القضية الاجتماعية، أو القضية الوطنية التي عادت بقوة، لتتصدر الموقف والظرف قبل جميع القضايا بعد عدوان "الكيان الصهيوني" رأس الحربة الاستعمارية في قلب المنطقة وفلسطين منذ عام 1948، ومن ورائها دعم استعماري أمريكي غير محدود وبكل الصور، وبما يفوق أي تصور، خاصة قبل الافتضاح الكامل للمؤامرة ونشر الكثير من وثائق المرحلة!. لكن جمال عبد الناصر أصدر وثيقته الجديدة (بيان 30 مارس) في عام 1968، ولم ينتظر مرور السنوات العشر، بحكم ظروف المجتمع وبدايات وتبعات حرب الاستنزاف الماجدة، وقلق الشعب وغضب الشباب (وألم الجميع بقدر أمل الجميع)، ومتطلبات كثيرة تفرضها المرحلة بعد عدوان أسفر عن احتلال العدو لأجزاء جديدة من التراب الوطني والعربي، والاستعداد بتخطيط علمي متكامل بل ونموذجي لمراحل تتدرج من الصمود إلى الردع إلى التحرير، ومن بسالة وبطولات حرب الاستنزاف إلى ضرورات ما سوف يعقبها وتنفيذ خطة جمال عبد الناصر وعبد المنعم رياض ومحمد فوزي وبقية القادة لحرب عبور واقتحام قناة السويس وتحرير الأرض المحتلة، وما عرف ب "إزالة آثار عدوان 1967"، كخطوة لا بديل لها على الطريق الكبير (الذي قد يطول لكن لا بديل له بدوره)، إلى دحر العدو بالكامل وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر. إننا بأمس الحاجة اليوم إلى تأمل الميثاق ودراسته كخطوط نظرية، وأسس منهجية، ومفاهيم برنامجية (إضاءة على الميثاق)، وإلى اجتهادات على الطريق من أجل ميثاق جديد للعمل الوطني، اجتهادات تضيف إلى ميثاق 1962 وتستلهمه، تعيد النظر فيه وتنطلق منه (إضافة إلى الميثاق). على سبيل المثال: "إضافة" فكرية تحليلية تاريخية على نحو ما صنع الميثاق في 1962 إزاء ما لحق بثورة 1919 الشعبية الكبرى، من انتكاس طويل، فكذلك مطلوب وضروري اليوم، إضافة تستخلص الدرس والعبرة، النتائج والاستفادة، مما لحق بثورة 23 يوليو من ردة رجعية حادة شاملة، وزحف للثورة المضادة وتمكنها من سلطة الدولة، مما تترتب عليه خروج الثورة من السلطة و(انتقالها) إلى الشارع، وليس (قتلها)، فقد ظلت حية نابضة، تقاوم وتناضل، تصبر وتثابر وتصمد، متمثلة في كل القوى الشعبية العاملة صاحبة المصلحة في ثورة 23 يوليو ومكتسباتها الثورية، منفجرة بالانتفاضة الشعبية الكبرى المجيدة (في 18 و19 يناير عام 1977)، وبالمظاهرات والاحتجاجات الباسلة في كل وقت، حتى تجمعت الطاقات وتراكمت الجهود، لتخرج نوعياً كأعظم وأبهى ما يكون، في ملحمة الثورة الشعبية التي سطعت وأدهشت البشرية ابتداء من نهار 25 يناير عام 2011. وبغض النظر عن كل ما اعترى مسار ثورة 25 يناير من ألام أو لحظات مخيبة للآمال، من عسر أو تعثر، من اضطراب أو ضباب، فيما اعقب انفجار الثورة من مراحل انتقال أو تحول، فإن الموجة الأولى من الثورة نجحت، ولابد من أن تحكم قوى الثورة عملها وجهودها، من أجل النجاح والظفر رغم الصعوبات الهائلة في الموجة التالية من الثورة، بل لا نبالغ أو نثبط حين نقول: الموجات التالية من الثورة. إن ثورة 25 يناير 2011 ردت الاعتبار حتى (لكلمة الثورة ذاتها) في الواقع المصري وظروفه البائسة منذ عام 1974 على الخصوص، وردت الاعتبار لقيمة وفعل ووسيلة ودور الثورة، فضلاً عن كونها ردت الاعتبار للحلقة السابقة عليها من الثورات المصرية: (ملحمة ثورة يوليو التي بدأت في 1952 واستمرت حتى رحيل قائدها في 1970، وبقوة الدفع الذاتي حتى افتتاحية العبور في حرب رمضان أكتوبر 1973)، بل ولمجمل الحلقات السابقة في التاريخ الحديث لمصر: (من مقاومة وطنية شعبية مقدامة من قادتها ورموزها عمر مكرم ومحمد كريم، وثورة وطنية جسور من قادتها ورموزها عرابي والنديم، وحركة تحرر شجاعة من قادتها ورموزها مصطفى كامل ومحمد فريد، وثورة شعبية باسلة وحركة من أجل الاستقلال مثابرة من قادتها ورموزها سعد زغلول ومصطفى النحاس). إن على قوى وطاقات ومواهب ثورة 25 يناير، أن تنجز وتبدع (ميثاق العمل الوطني لوطن 25 يناير)، مثلما أنجزت وأبدعت قوى وطاقات ومواهب ثورة 23 يوليو (ميثاق العمل الوطني لوطن 23 يوليو). وكما كان "ميثاق يوليو" هو ميثاق مصر القائدة بالطبيعة لأمتها العربية، وللثورة العربية مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين، فإن "ميثاق يناير" هو ميثاق مصر القائدة بالطبيعة لأمتها العربية، وللثورة العربية مع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وحتى تنتصر ثورة يناير. وحتى تنتصر الثورة العربية. حتى النصر. Comment *