عرفته إنساناً مثقفا .. راقيا .. واسع الأفق ، انسانا عاشقا لكل شيء يفتح بابا من النور لعقول البشر ، وهو من الشخصيات التي تشعر بالراحة عندما تتقابل عيناك مع عينيه ، وجه مألوف تشعر أنك سبق أن رأيته مئات المرات وفي عينيه بريق ينم عن ذكاء وعمق كبير ترى فيه ايمان بالأدب والثقافة وسائر الفنون بكل ما فيها من بلاغة وابداع . والفضل يرجع الى صديقي مصطفى الذي عرفني عليه في احدى حفلات أوركسترا القاهرة السيمفوني بدار الأوبرا ، وقد استمتعت بآرائه ورؤيته للعرض الذي شاهدناه بعد تصفيق هائل غمر المسرح الكبير . بعدها .. دار بيننا حديث طويل .. حديث ضم في كلماته مشكلات وآراء وهموم المثقفين .. استشعرت في كلماته أنه ليس المثقف الحافظ لمعلومات قرأها في رواية أو كتاب أو مثقف يستعرض ما قرأه لمجرد الوجاهة أو ليقال أنه مثقف .. وانما هو مثقف حقيقي .. مثقف يقرأ لأنه مؤمن بعادة القراءة .. يقرأ في كل الأديان .. يقرأ في القرآن والإنجيل .. يؤمن بالحوار .. بحرية الرأي والرأي الاخر .. مثقف تستشف تحضره من سلوكه الراقي وقدرته على التعامل مع أي شخصية يقابلها بذكاء وكياسة يشهد له بها كل من راه . وقد لاحظت حديثه المتكررعن العلمانية .. وهي أحد القضايا التي شغلت حيزا كبيرا في تفكيره .. لقد قرأ عنها الكثير .. قرأ الأراء المدافعة عنها والآراء المضادة لها .. مؤمنا أن الانسان عندما يقرأ عن أي قضية فان عليه أن يتناولها من جميع جوانبها .. أن يرصد كافة ملامحها وأبعادها المتعددة ، وفي خضم حديثنا تحدث عن كتاب قرأه اسمه ” التطرف العلماني في مواجهة الاسلام ” ومع عرضه الشيق واسلوبه في طرح وعرض وجهة نظر صاحب الكتاب ، أحسست برغبة كبيرة في أن أستعير الكتاب وأقرأه .. وقد رحب كثيرا .. ترحيبا صدر من انسان يود لو استطاع أن يعين البشرية كلها على القراءة والمعرفة .. لقد رحب برغبتي في استعارة الكتاب وأعطاني وقتا جعلني أقرأ كتابه أكثر من ثلاث مرات . *** وجاء وقت ارجاع الكتاب له .. وهنا كان يجب على أن أعرف عنوان منزله لأعطيه الكتاب و أشكره على تعاونه وكرم أخلاقه معي ، وبالفعل عرفت عنوانه في حي شبرا وذهبت اليه وأنا مشتاق لحوار جديد أو قراءة كتابا اخر . والحقيقة أنها كانت أول مرة أذهب فيها الى هذا الحي العريق وأنا سعيد بمقابلة انسان .. أرى أنني قد نلت شرف صداقته .. ولكن الغريب هو ما حدث ، وما رأيته ، عندما طرقت الباب ففتحت لى فتاة في الخامسة عشر من عمرها تقريبا .. قصيرة .. عادية الجمال .. يتصدر ملامحها شقاء تعرف منه أنها ليست سوى خادمة أرهقتها الدنيا وقست عليها حتى تكاد تجزم أنها لا تضحك أبدا ، وقد أدخلتني لأنتظر قدوم صديقي الجديد وأتت لي بفنجان من الشاي المحلى بنبات النعناع .. ولكن من لحظة دخولي الى هذا البيت وأنا أشعر بجو غريب يحيط بأركانه ، وقد لاحظت شيئا لم أكن أتوقعه وأنا جالس على المقعد المواجه لصور أكدت لي شيئا ما .. صورا لقساوسة ورسوم توحي بالسيد المسيح والعذراء .. وضعت الكتاب على المنضدة المقابلة ، وأنا في حيرة من هذا الأمر .. كيف؟! .. انه يعرف الكثيرعن دين الاسلام .. يقرأ في القران والسنة .. يقرأ عن الأئمة الأربعة حتى استطاع أن يكون وجهة نظر كما لوكان شيخا تعلم في الأزهر .. أيدفعه حب القراءة والاطلاع الى هذا الحد .. جلست حائرا .. شاردا .. أفكر دون توقف ، والوقت قد طال وهو لا يأتي .. ساعة.. قضيتها بين التفكير واستحضار دبلوماسية التعامل معه .. والفتاة اختفت .. لم يعد لها أثر .. والوقت طال وأنا غارق في تفكير لا ينتهي . ويمر الوقت حتى سمعت صوتا طفيفا .. صوتا أقرب الى التوسل .. أقرب الى البكاء .. تحركت بشكل لا ارادي في اتجاه قدوم هذا الصوت من غرفة بابها شبه مفتوح .. تستطيع أن ترى منه من بداخلها وهو لا يراك . انه هو .. جالس أمامي في غرفته المتواضعة ، وقبضتيه متعانقتين ودموعه تسيل كماء المطر ، والصليب .. الصليب معلق في رقبته كأنه في صلاة .. يبكي بحرقة بكاءا يشتد معه الام انسان مزقته الخطيئة .. انسان يتضرع الى الرب بقلب يموج بالعذاب وكأنها فرصته الأخيرة حتى يتطهر ويقابل المسيح بقلب طاهر من المعصية فيرحمه الرب من الهلاك المبين . *** تراجعت بخطوات الى الوراء .. تراجعت حتى وصلت الى مقعدي وأنا أشعر بالخجل لاحساسي أني اقتحمت عليه دنياه وتقربه الى الله .. تلك اللحظة الايمانية التي يريد الانسان أن يخلو فيها الى نفسه وهو متضرعا الى ربه .. خشيت أن يكون قد راني فيزداد خجلي منه .. جلست في مقعدي أنتظره واسترجع ما رأيته .. ألهذا الحد يمكن للانسان أن يندم؟! .. أن يبكي وكأنه قد أشرف على الموت واقترب من لحظة فراق عالمه .. ألهذه الدرجة يمكن أن يشعر الانسان بقمة الضعف رغم أنه قد يظهر بين قومه في قمة القوة ؟! .. انتظرته حتى جاء ، ومع قدومه .. ازداد احساسي بخجل بدأ يذوب بعد ترحيبه بي وبدأ بيننا الحوار . قلت وأنا لا زلت أشعر بالخجل : - كيف حالك .. لعلك تكون بخير . قال بلهجة المرحب بضيفه : - بخير .. أتمنى أن يكون الكتاب قد أعجبك . قلت وقد بدأت أكون على طبيعتي : - أعجبني جدا انه كتاب رائع استطاع فيه مؤلف الكتاب أن يطرح رأيه بمهارة ووعي شديد ، وأود أن أستعير منك كتابا اخر فمن الواضح أنك تملك مكتبة زاخرة بالعديد من الكتب .. هي ثروة بكل المقاييس ، ولكني قبل أي شيء .. أريد أن أطلب منك أن تسامحني على .. على أنني قد سمحت لنفسي أن أقتحم عليك غرفتك وأنت تصلي .. لقد انتظرت كثيرا وعندما سمعت صوتا أحسست أنه صوتك اقتربت و .... قاطعني قائلا بدهشة : - أي صلاة تقصد . قلت وقد عاودني الخجل من نفسي : - رأيتك تتضرع الى الله وكأن الموت يزحف نحوك وأنت تتطهر من ذنوبك وتقسم بيسوع المسيح على التوبة والرجوع الى الحق و ..... قاطعني بضحكة وسعت شفتيه وقال : - أظننت أني مسيحي .. انني أمثل دور راهب في مسرحية ستعرض على خشبة مسرح المعهد وطالما أنك اقتنعت أني لست مسلما فهذا معناه أني استطعت تقمص شخصية الراهب كما حلمت أن أخرج بها الى الجمهور .... واسترسل وهو في فرحة تختلط فيها السعادة مع الاحساس بلذة النجاح .. بل الوصول الى منتهى النجاح .. وهو مسلم متدين يحب الرسول وعمر بن الخطاب .. طالبا في المعهد العالي للفنون المسرحية .. عاشقا لفنه الى درجة جعلته يتقمص دور راهب ويهيئ لنفسه جوا ساعده على هذا التقمص والخروج بهذا الاداء الرفيع .. تركته على وعد باللقاء عند خشبة المسرح وقد أصبحت على رأس المدعوين ..... مواضيع ذات صلة 1. رحاب إبراهيم : الصمت 2. رحاب إبراهيم : الجانب الآخر 3. الفقيه الدستوري إبراهيم درويش ل “مانشيت “:مبارك لن يحل البرلمان 4. تأجيل دعوي تخصيص 41 مليون متر بسهل حشيش ل”إبراهيم كامل” إلي 18 يناير 5. محمد مجدي يكتب: سأكون صاحيا يا بحر .. سأكون صاحيا وسعيدا