مددت يدك إلى تليفون منزلك.. وطلبت الهاتف “الملطوع” أمامك على شاشة فضائية من الفضائيات.. وهى عادة كل البرامج الآن.. بدعوى التواصل مع المشاهدين.. انبريت هاتفا مهاجما الثورة واليوم اللى شفت فيه الثورة واللى عملوا الثورة والخراب اللى جابته الثورة.. مرددا كلاما لم تكلف نفسك ببذل القليل من الجهد لعقله.. “توقف عجلة الإنتاج”.. أى إنتاج؟ لا تدرى.. والجملة التى صار استخدامها مثل “صباح الخير” الآن..”منكم لله خربتوا البلد”.. الثورة خلصت واللى بيعملوا مظاهرات دلوقت صيع وبلطجية.. هو مش خلاص بقى فيه مجلس شعب.. بينزلوا الميدان ليه؟.. عاوزين الاستقرار بقى!! إنبريت مناضلا.. دفاعا عن السلبية والركون إلى الكنبة.. مؤسسا إئتلافا باسم “الأغلبية الصامتة”.. ياسلام!!.. وجدت فى نفسك طاقة مذهلة للدفاع عن الصمت.. ثم خطوت خطوة إيجابية فى سبيل الصمت, بتأسيس هذا الإتلاف.. وصار شغلك الشاغل وأعضاء إئتلافك العبقرى هو التصدى للثورة.. بالتأكيد على مبدأ الاستقرار على الكنبة.. لما لا.. أليست تلك الثورة الملعونة هى التى وضعتك أمام المرآة لترى حقيقة استسلامك؟.. دونما لحظة تفكير واحدة فى العنوان الذى اخترته.. الصمت.. ولا جذوره وكيف نشأ.. ولا الهدف من تمرير هذا المصطلح عبر سنوات وسنوات!!.. ولو تركت لعقلك حرية العمل, دونما دفعه دفعا داخل صندوق الصمت.. لأعلنت فورا تنصلك من الكلمة.. والعصيان على المعنى المختبىء ورائها. “الأغلبية الصامتة”.. تعريف نجح نظام مبارك الساقط فى إطعامه عنوة للمصريين طوال سنوات حكمه.. ضمن وجبة شاملة.. تصدر فكرة أن الرئيس هو الزعيم والأب وولى الأمر وكل شىء.. هو من يعرف صالح المواطنين.. وهو من ينوب عنهم.. فى التفكير واتخاذ القرار والاختيار والتصويت فى الانتخابات.. فهو ونظامه شغلهم الشاغل صالح المواطنين.. المواطنين البسطاء.. الأغلبية الصامتة.. التى لا “تهش” ولا “تنش”.. مواطنين صالحين.. وطنيين.. لا تشغلهم السياسة.. فترسخ الفكرة المرادة فى عقولهم.. الزعيم ومن حوله فقط هم أهل السياسة والخبرة والعقل والحل والعقد.. ومن يتكلم دونهم فى أمرها فهم قلة من المعارضة.. الهشة.. التى لا يعنيها صالح الوطن.. ولا صالح مواطنيه البسطاء.. وهنا يصبح ملايين المصريين “أغلبية صامتة”.. تلهث لجمع أقل القليل.. الذى لا يوفر “العيش الحاف”.. فتحمد الله عليه شاكرة.. دائرة طائعة فى ساقية اللهاث ورائه.. فرض مبارك ونظامه عليهم الصمت.. قهرا أو قسرا أو عنوة.. عبر أذرعه المختلفة.. أمنية وإعلامية.. وعبر سنوات طوال.. صار حديث الإعلام – فى معظمه – ينعت جموع المصريين ب”الأغلبية الصامتة”.. وتزيدا صار بعض المصريين يسمون انفسهم “حزب الكنبة”.. إستسلاما لرغبة الزعيم وعصابته.. وهذا يصبح مفهوما ومنطقيا فى ظل العنفوان المزعوم لهذا النظام.. لكن بعد أن يسقط النظام, بخروج ما لا يقل عن 25 مليون مواطن.. فى كل محافظات مصر فى يناير 2011.. وتعاطف وتأييد ضعف هذا العدد ممن باغتتهم المفاجأة.. فقبعوا فى منازلهم متسمرين امام شاشات الفضائيات.. ثم خروجهم فى لحظة عفوية صادقة يوم 11 فبراير.. بالتنحى او التخلى او سمه كما شئت للزعيم الساقط.. فإن خروج البعض بائتلاف “الأغلبية الصامتة” هو أمر يثير الدهشة حقا!! أما المثير للاستفزاز حقا فى هذا الإئتلاف.. فهو خروجهم عن صمتهم فقط لتأييد الفلول.. والوقوف فى وجه أى تحرك أو فعالية لاستكمال الثورة أو تحقيق أهدافها.. فتجدهم يستجيبون فورا لدعوات أحد أصحاب الفضائيات.. صاحب القبلة الشهيرة على يد صفوت الشريف.. تجدهم خلفه فى العباسية.. أو الإسكندرية.. أو أى مكان يدعو للخروج فيه.. تجدهم أمام أكاديمية الشرطة.. فى المحاكمات المزعومة لمبارك وعصابته.. مؤيدين, رافعين صوره, واللافتات المضحكة لجماعة “آسفين ياريس”.. وفى ميادين أخرى رافعين صورة المشير.. ثم عمر سليمان.. ثم أحمد شفيق.. وعمرو موسى!! ويدهشونك حقا.. عندما ينتشرون فى الفضائيات.. عبر التليفون فى مداخلة.. أو ضيوف فى برامج التوك شو.. يرددون جملا قصيرة النفس.. الاستقرار وما شابه.. الاصطفاف خلف المجلس العسكرى صائبا أو مخطئا.. رافعين شعارات الدفاع عن الجيش كلما علت الأصوات منتقدة المجلس العسكرى.. ولا لهدم الدولة.. مع أنه معروف بالضرورة أن المجلس العسكرى ليس هو الدولة!!.. وعندما تسألهم: أى صمت تشكلون باسمه إئتلافا وأنتم تتحدثون فى كل مكان؟.. يردون بلا تفكير: نحن مع الدولة.. وضد من يسعى لهدم الدولة!!.. تسألهم: ومن قال أن الثورة ستهدم الدولة؟!.. يقولون – بلا تفكير أيضا: ألم تدع الثورة لإسقاط النظام؟!!.. ومهما حاولت أن توضح لهم أن النظام ليس الدولة.. وأن أى مؤسسة فاسدة تستحق التغيير ليست هى الدولة.. وأن الرئيس ليس هو الدولة.. وبالطبع ولا المجلس العسكرى.. يقولون لك دون أن يبدو أنهم سمعوك: نحن مع الاستقرار!! شغل أصحاب هذا الإئتلاف تفكيرى لفترة طويلة.. مندهشة من اختيار مواطنين طوعا للاستسلام.. فى لحظة تاريخية قد لا يعيشونها مرة أخرى.. تفتح أمامهم باب الحرية على مصراعيه.. وتفتح لعقولهم نافذة واسعة للتفكير فى كرامتهم وحقوقهم ومستقبلهم وأبنائهم.. ظللت طويلا أفكر فى تلك الرغبة الجامحة فى الانسحاق خلف جدار يحجب النهار.. خوفا من ضوء الشمس.. لا لشىء إلا الاعتياد على الظلام, أو فى أفضل الأحوال الغيوم.. أخذ منى التفكير فى هؤلاء وقتا طويلا قبل أن أصل إلى نتيجة واحدة.. قد تبدو قاسية.. لكنها بالنسبة لى حقيقة.. من يجبر على العيش فى الظلام لا لوم عليه لو لم يفكر فى الخروج للنور.. لكنه لا يستحق الشفقة أو التفكير فى أمره.. إذا لاحت له فرصة نادرة للعيش فى النور.. ولكنه أصر إصرارا على البقاء فى الظلام!!.. فقد خلقنا الله نملك فكر الأحرار والعبيد فى ذات الوقت.. وخلق لنا عقلا نختار به بين الاثنين.. فإما أن نكون أحرارا.. أو عبيد.. وكل بما يختار سيصير رهينة!!