باسل رمسيس : ناصية السينمائيين قبل أيام من سقوط مبارك، وتحت وطأة الملل في ميدان التحرير، قرر أربعة من شباب السينمائيين، الانعزال في إحدى غرف دار ميريت، لكتابة بيان باسم “سينمائيون معتصمون في ميدان التحرير”. يعلنون فيه أن هناك فنانين مشاركين في الثورة المصرية، وأنهم لن يغادروا الميدان قبل إسقاط النظام. وبلهجة “جذرية” أعلنوا عددا من المواقف الثورية. تصوروا وقتها أن القليل من السينمائيين المصريين هم من سيوقعون علي هذا البيان، إلا أنه وخلال ما يقل عن 24 ساعة، بلغ عدد التوقيعات ما يقارب المئتين من التوقيعات.. سينمائيون من مختلف التخصصات، ومن مختلف الأجيال. يجتمعون بعد نشر البيان، ليحددوا مسارات نضالهم ضد النظام، ولتنظيم التظاهرة السياسية، الثورية، الأولي في تاريخهم، التي ستخرج إلي الشارع. وهو ما كان عصيا عن التخيل عشرة أيام قبل هذا اليوم. في بداية الاجتماع، يقترح أحد المنتجين، ممن لهم القبول والاحترام، أن يدير هو الجلسة بصفته الأكبر سنا. فيرد عليه الممثل الشاب آسر يس، مازحا: (ده كان زمان يا دكتور، قبل 25 يناير). فتدير الجلسة إحدى أصغر السينمائيات سنا. بين ينايرين: افتتح جيل جديد من السينمائيين المصريين عهد مبارك، وهو الجيل الذي يسمي بعدة أسماء، من بينها جيل الثمانينات، أو جيل السينما الجديدة، أو جيل الواقعية الجديدة. أغلبهم من أبناء الحركة الطلابية، أواخر الستينات وأوائل السبعينات. تأثروا بأحداث تاريخية، عاصروها قبل أن يقدموا أول أفلامهم الروائية الطويلة، فتترك هذه الأحداث آثارها في إنتاجهم اللاحق. كان من أهم هذه التحولات الانفتاح الاقتصادي، وأحداث مثل معاهدة كامب ديفيد، وانتفاضة الخبز 18 و 19 يناير. يتناولونها في أفلامهم، مشهرين رفضا ما للنظام. الوضوح في الموقف السياسي والاجتماعي، يمنحهم القدرة علي إنتاج رؤي سينمائية جديدة، تبلورت مع الوقت، خلال حقبة الثمانينات.. الحقبة الأولي للرئيس “الممل”، الذي لا يحدث شيئ في عهده. ربما تكون مفارقة “الينايرين”، 1977 و2011، وكون يناير الأول قد ساهم في خلق سينما جديدة، قد راودت أذهان الكثيرين من السينمائيين الشبان، الذين قضوا لياليهم علي رصيف ميدان التحرير، في يناير الجديد. لكن العهدين يختلفان – دون مصادرة علي ما سيحدث في المستقبل – فأبناء يناير 1977 هم أبناء الصناعة، آتون من نهايات القطاع العام السينمائي، ومن المراكز السينمائية التابعة للدولة، التي أنتجت لهم أفلامهم القصيرة، الروائية أو الوثائقية الأولي. لكن، من أين يأتي أبناء يناير 2011؟ وهل يحق الحديث حول “جيل جديد” في السينما المصرية؟ كنت أود ألا أصارح القارئ بماذا يعمل زملائي.. لكنني مضطر الآن للاعتراف بأن أغلبهم لا يعمل في السينما. أغلبنا يعمل في بلاتوهات التلفزيونات، الخليجية وغيرها، لإنتاج مسلسلات تفتقد للقيمة.. أو في إعداد وإخراج برامج “التوك شو” وغيرها.. آخرون في مهن تتعلق بالإعلانات.. والقليلون المحظوظون هم من يعملون في السينما الوثائقية أو الروائية. نستطيع القول بأنهم آتون من دولة الوزير “الفنان”، الذي شهد عهده كل أنواع الكوارث الثقافية، ومن بينها وفاة العشرات من المسرحيين المصريين، داخل أحد مسارح الدولة ببني سويف، دون أي تحقيق أو محاسبة للمسئولين. بكلمات أخري، ينتمون لدولة مبارك/ساويرس.. دولة تتزاوج فيها السلطة الغاشمة، مع قبضة رأس المال الوفير، ودعاوي الليبرالية. ففي عام 1996، تأتي الدولة ب”الفرج” لما يطلق عليه أزمة السينما، بأن تهدي رجال الأعمال الكبار، ممن ليس لهم أي علاقة بصناعة السينما، ومن ضمنهم نجيب ساويرس، مجموعة من القوانين، التي تمكنهم من السيطرة علي كل رأس مال السينما المصرية، سواء تعلق بالإنتاج أو التوزيع أو دور العرض.. وصولا لحقوق عرض الأفلام المملوكة للدولة. لم تحل الأزمة، ولم تنهض السينما، ولم تفتح أبوابها لسينمائيين جدد. بل ببساطة انتهت تماما. وخلال التسعينات، يتم إنتاج أفلام قليلة بغرض الاستهلاك السريع. و بعض الأفلام النادرة، مما تنتمي للسينما الجادة، التي تعبر عن هم فني أو مجتمعي. ينسحب السينمائيون القدامي، يكتفي بعضهم بتقديم فيلم كلما تيسر، وينهي بعضهم الآخر علاقته بهذا الفن نهائيا. وخلال نفس الحقبة، ينجح، وبالصدفة، القليل من السينمائيين الجدد، في تقديم فيلم، لا أكثر، قبل الانسحاب بدورهم. علي سبيل المثال: زكي فطين عبد الوهاب، بفيلمه “رومانتيكا” – 1996، وعاطف حتاتة بفيلمه “الأبواب المغلقة” – 1999. في سياق الانهيار هذا، يظهر ما يمكن أن نسميه مجازا ب “الأجيال الجديدة”، التي تدخل مجال الإبداع السينمائي بدايات الألفية الجديدة. من يستطيع إنتاج أفلامه داخل السوق، يتمسك بالفرصة. ومن يستطيع العمل تحت عباءة قناة الجزيرة، وفهمها الخاص للفيلم الوثائقي، فليعمل. والآخرون يحاولون النجاة داخل مصطلح السينما المستقلة، لينتجوا فيلما أو اثنين بالكاد، فيما يمكن تسميته بالسينما المهمشة، أكثر من كونها مستقلة. جيل الديجيتال وبداية الحراك: تمنح التطورات السياسية والاجتماعية، وأيضا التكنولوجية، هؤلاء السينمائيين الفرصة لتطوير أعمالهم، والإصرار علي البحث عن طرق جديدة.. الانتفاضة الفلسطينية الثانية.. إنسحاب إسرائيل من جنوب لبنان.. غزو العراق واحتلاله، مع أولى التظاهرات التي تصل إلي ميدان التحرير، منذ عقود.. بداية مشروع التوريث وبروز حركة كفاية.. إضرابات 6 أبريل 2008.. إلي آخره. ويبادر بعض السينمائيين الشبان في التفاعل مع ما يحدث، يرونه بداية للتغيير، فيمسكون بكاميراتهم الديجيتال الخفيفة، وهو ما لم يكن متاحا من قبل، فتظهر العشرات من الأفلام القصيرة، منخفضة التكاليف، التي لم ينل صناعها الشهرة، ولم يرها الجمهور الواسع، إلا أنها تجعلنا نردد أسماء جديدة مثل: تامر عزت، هالة لطفي، هالة جلال، تامر السعيد، عماد أرنست، أحمد رشوان، أحمد خالد، شريف البنداري، وغيرهم. هي أسماء قليلة، لا تجمعهم سمات كافية لنسميهم “الجيل”.. إلا أن تجاربهم تطرح بوضوح محاولة لكسر الاحتكار الكامل للشركات الكبيرة علي المنتج السينمائي المقدم، ومنافذ توزيعه. هي أيضا محاولات لكسر سلطة الرقابة علي المنتج الفني في كل مراحل صنعه. وعبر الأفلام الاجتماعية أو الشخصية، يهرب الشباب من سطوة الرقابة، مقتربين من التابوهات المصرية الثلاثة الشهيرة. وقبل الثورة بسنوات قليلة، وربما بشهور، تصل هذه التجارب إلي مجال الفيلم الروائي الطويل. فالمخرج محمد دياب، في فيلمه الأول، “678”، يقترب من قضية التحرش الجنسي، التي لا يتم الحديث عنها كثيرا. ولنتأمل هذه التفصيلة: ثلاث نساء، ينتمين لشرائح اجتماعية مختلفة، يتعرضن لأنواع من التحرش الجنسي، فتواجهه ابنة الأغنياء بالانسحاب، وتواجهه ابنة الطبقة الوسطي بالقانون، إلا أن ابنة الطبقة الفقيرة تنتقم بالعنف. والأهم هنا هو أن صناع الفيلم لا يجرمون هذا الاستخدام للعنف. هذا الفيلم الذي يعرض جماهيريا قبل شهور من الثورة، يحتمي بمعني ما بالنجمة “بشري”، ووجودها كممثلة ومنتجة. وهو ما لم يقم به زميله إبراهيم البطوط، الذي يصر علي إنتاج أفلامه بنفسه، وعلي تجنب النجوم، ليمزج ما بين الروح الوثائقية والروائية، مقتربا من السياسة، وداعيا للتمرد، عبر فيلميه “إثاكي” و”عين شمس”. أما أحمد عبدالله، فربما يكون، بالصدفة، صاحب أكثر التجارب اقترابا من روح الثورة، التي لم تكن قد حلت بعد. يحتفظ بهذه الروح الوثائقية في أفلامه الروائية، كإبراهيم البطوط، لكنه يحتمي أيضا بالنجم/الممثل/المنتج.. في هذه الحالة، المعارض خالد أبو النجا. في فيلمة ميكروفون، الذي كان من المفترض افتتاحه تجاريا يوم بداية الثورة المصرية، يقترب من الشباب الذين صنعوا هذه الثورة، يشير إلي جارهم المقتول.. الأيقونة خالد سعيد، ويقترب مما ينتجونه من فن للتعبير عن أنفسهم ولرفض السلطة. الجرافيتي والسينما: هل أنتجت الثورة سينماها؟ أم أنها اكتفت، مؤقتا، بإنتاج أشكال فنية أخري؟ ربما علينا التوقف عند صورة شهيرة، تم التقاطها من شرفة مطلة علي ميدان التحرير.. مشهد عام للميدان، ممتلئا علي آخره، في لحظة تنتمي لأحد الأيام الأولي للثورة، أنه وقت الغروب، لا تري التفاصيل، فقط تستطيع تمييز عدد لا يحصي من النقاط الزرقاء الصغيرة.. شاشات الهواتف المحمولة، تقوم بتوثيق ما يحدث. وكأننا جميعا سينمائيون، وكأننا جميعا شخصيات فيلمية. رغم الكم الهائل من الفيديوهات التي توضع يوميا علي شبكة الإنترنت، يلفت النظر، أن الثورة المصرية لم تنتج سينماها أو مسرحها بعد. وهو ما يمكن فهمه فقط بمنطق إنها لم تكتمل بعد. السينما والمسرح المنتميان للثورة، يحتاجان أن تستولي هذه الثورة علي الدولة، أن تعيد بناءها، تحت سيطرة فنانيها، وتحت رقابة جمهورها. رأس المال مازال مع رجال الأعمال، والسلطة مع المجلس العسكري والإخوان المسلمون، والأصوات الرقابية مع السلفيين، راغبي تقطيع القبلات من الأفلام تمهيدا لمنعها. أما الكاميرات الصغيرة فهي مازالت في أيدي بعض السينمائيين المتفرقين، المنشغلين بتوثيق المعارك اليومية التي تفرض عليهم، أو المشاركة فيها. كانوا يرددون لنا في المعهد العالي للسينما نفس العبارة التقليدية: (السينما صناعة وتجارة وفن.) وكان بعض الأساتذة يردد بنبرة مهددة: (فاهمين ولا لأ؟ صناعة وتجارة قبل ما تكون فن.) ولأننا لم نتعلم بعد أنها عمل جماعي وسياسي، فلم تؤثر الثورة بعد في سينمانا. تم بالفعل إنتاج أشكال موسيقية جديدة.. أشعار لها سمات ثورية.. مقالات سياسية يختلط فيها الأدب بالسياسة وبالتحليل.. والأكثر وضوحا، ثورة حقيقية في فن الجرافيتي.. ثورة تجدها عند كل ناصية، وتتطور يوميا. أي أنها ثورة في التعبيرات الفنية التي تتسم بالفردية، وتتطلب مبادرة المبدع الفرد. لكن، لم يقترب يناير 2011 بعد، من الإبداع الذي يشترط الجماعية. وهو ما يجد ظله في الحالة الآنية من الفوضي والانقسام الحاصل في التجمعات والائتلافات السياسية. أما عن الإنتاج السينمائي الذي تناول الثورة بعد حدوثها، فلم يبتعد كثيرا عن اعتبار يناير مجرد موضوع أو سلعة تسويقية. بما فيه الفيلم الجماعي “18 يوم”، الذي جمع سينمائيين من أجيال مختلفة، ليحكي كل منهم حكايته عن الثورة التي عاشها. فخرج منفصلا في أغلب أجزائه عنها، وحاملا لبصمات من لم ينتموا لهذه الثورة، بل وقاموا بعمل دعاية الرئيس وحزبه قبلها، مثل مروان حامد وشريف عرفة، ومهمشا لقصص من شاركوا فيها بالفعل. وتكتمل هنا المفارقة، في أن يتمثل الاستثناء في القليل من الأعمال الوثائقية، للشباب الجدد، الذين أنهوا بالكاد دراساتهم السينمائية، أو لم ينهوها بعد، مثل نيفين شلبي، في فيلمها “أنا والأجندة”. ناصية السينمائيين: (لنلتق عند ناصية السينمائيين).. هي العبارة التي كنا نرددها عدة مرات كل يوم، خلال الأيام الأولي للثورة. عند أحد مداخل الميدان، بأسفل هذه اليافطة الكبيرة الحمراء، التي تقول كلمة واحدة: “إرحل”، كان السينمائيون هناك، من كل الأجيال، حاملين لكل الخيبات والهزائم. لكنك تراهم ضاحكين أيضا، يرددون الهتافات، يبكون، يلقون بالحجارة، أو مشاركين في مهام خيمتي “الميديا سنتر”، اللتين نصبتا من قبل بعض الشباب، من المصورين والسينمائيين، منذ اليوم الأول لتحرير الميدان من السلطة، لتوثيق ما يقوم به أعداؤهم وتوزيعه علي القنوات الفضائية. رحل مبارك، ورحلنا. ذهب البعض تحت قيادة عدد من السينمائيين الشيوخ، من أمثال علي بدرخان، ومن الشباب من أمثال المونتيرة ولاء سعدة، للاعتصام في النقابة، لتحريرها، كي تبني من جديد بما يلائم هذه الثورة. ينتهي الإضراب ويخسر السينمائيون معركتهم في مواجهة موظفي التلفزيون، وينتصر نفس النقيب الذي ينتمي لزمن مبارك. يغادر الشباب النقابة، ليعودوا عدة مرات إلي الميدان.. في أعداد أقل.. عاد البعض إلي مكاتبه المنزلية للكتابة، أو لتحضير مشاريع، لا يعلم إن كانت ستخرج للنور أم لا. البعض الآخر مازال في الشارع.. أنهم من تركوا مسلسلاتهم وإعلاناتهم.. محاولين أن يعيدوا إنتاج ثورتهم، فيلميا، أو استكمالها. أما الناصية.. فمازالت تنتظر الجديد، من هتافات، أو صور، أو أفلام. باسل رمسيس نشرت في جريدة السفير اللبنانية بتاريخ 30 مارس 2012