أعادت الأحداث الأخيرة في غزة تذكير العالم بمعاناة الفلسطينيين وقضية اللاجئين والشعب المحاصر الذي يذوق الأمرين بشكل يومي ومستمر، ونجح الفلسطينيون في تسليط الأضواء على قضيتهم، بعد أن قاربت على أن تكون ضربًا من ضروب التاريخ الفاني، متقدمين بذلك خطوات كثيرة على جيش الاحتلال الذي أزعجه مقاومة الشباب موحدا تحت راية العلم الفلسطيني وحده هذه المرة، جالبين المزيد من الاهتمام لما يجري بحق هذا الشعب الجريح. ونجحوا في الوقت ذاته في استنفار الجيش الإسرائيلي للأسبوع الثاني على التوالي فيما أطلق عليه الفلسطينيون "جمعة الكوشوك" بعد جمعة مسيرة العودة الكبرى، والتي صادفت يوم الأرض الفلسطيني في الثلاثين من آذار الماضي، وهي عمل جماهيري منظم ينطلق خلاله اللاجئون في مسيرات نحو الحدود دون حمل سلاح أو إلقاء حجارة بهدف تطبيق الفقرة من قرار الأممالمتحدة 194 الذي ينص على عودة اللاجئين الفلسطينيين. المسيرة التي عرفت بكونها ليست حدثًا ليوم واحد وإنما أسلوبا نضاليًا مستدام، تجاوزت الاختلافات السياسية واستندت إلى قانونية عودة اللاجئين الفلسطينين في أقرب وقت، ولم تقتصر على بقعة جغرافية واحدة بل شملت مختلف أماكن تواجد اللاجئين للاعتصام سلميًا في أقرب نقطة من بلداتهم التي هُجِّروا منها ناصبين الخيام ومتحامين بمسؤولية الأممالمتحدة التي توجب حمايتهم ومنع استهدافهم. إن هذا النجاح عمَّق ورسَّخ فكرة العودة في الوعي والتفكير الفلسطيني من جديد، وتمكن أهل غزة خلال هذا الوقت القصير من إنجاز ما عجزت عنه المؤسسة الفلسطينية الرسمية عنه خلال ثلاثة عقود. فمسيرات العودة التي يسيرها الفلسطينيون على حدود قطاع غزة خرجت عن السيطرة الحزبية وقامت على فعل شعبي لا يمكن التحكم فيه، و تمكنت أيضًا من استدراج الجيش الإسرائيلي للمربع الذي يكره، وهو الإبقاء على حالة تأهب عالي على الحدود، وقلب حياة الإسرائيليين المقيمين في محيط غزة إلى حياة منعدمة الأمن. إنَّ المسيرات التي دشنها الفلسطينيون في قطاع غزة نحو الحدود تمكنت من تحقيق عدة إنجازات مهمة منذ اليوم الأول لانطلاق الفعاليات، أهمها عودة القضية الفلسطينية وحق العودة إلى جداول أعمال المؤسسات الدولية، وإعادة طرح موضوع حصار غزة والأزمة الإنسانية فيها من جديد على صدارة الاهتمام العالمي، والتسبب بإحراج المحتل الإسرائيلي في المحافل الدولية، بعد نقل صور استشهاد وإصابة أكثر من 1500 فلسطيني في تظاهرة سلمية. إلى جانب النجاح في خلق نقطة دائمة السخونة على الحدود مع غزة وهي استراتيجية فلسطينية مرسومة لخلق نموذجًا جديدًا من الانتفاضة في وجه مخططات ترامب والتطلعات العربية تجاه التطبيع مع إسرائيل، بعد انتفاضة الحجارة والسكاكين والسلاح الناري، وقد حان الوقت اليوم للانتفاضة الجماهيرية المحتشدة نحو الحدود لاسترجاع حقوقهم التي صادرها الاحتلال الصهيوني منهم، فهي السلاح السري الذي سيتسبب بهروب مئات المستوطنين من المستوطنات المحيطة بقطاع غزة، وإجبار الاحتلال على الاعتراف بغزة ككيان مستقل لا يمكن السكوت على الوضع الإنساني الذي تعاني منه أمام التهديد الدائم بالمواجهة وتنظيم المزيد من المسيرات. إن المسيرات التي يعد لها الفلسطينيون في القطاع تجاه الحدود في ظاهرها محاولة من قبل أهالي غزة للعودة إلى الأراضي التي هجروا منها وفي باطنها لفت لأنظار العالم بأسره إلى قضيتهم الإنسانية التي لا تزال مستمرة منذ أكثر من عقد من الزمان، دون وجود نية دولية لحلها. والصورة المكتملة لهذه الأحداث ستنتهي عاجلاً أم آجلاً بمسيرات ملونية تجاه السياج الحدودي تمكن الغزيين من دخول الأراضي المحتلة بدون سلاح، ورغم استشهاد المئات منهم برصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي، غير أنهم سيتمكنوا من تحقيق حلمهم بالدخول لأراضيهم التي هُجِّروا منها بعد قاطرة من الشهداء والجرحى والتي سوف تجبر العالم على التدخل لمنع العدو الصهيوني من ارتكاب المزيد من المجازر بحقهم، ورفع الحصار المفروض عليهم. فالفلسطينيين لا يكنون إلى الحل العسكري وحده كمنهجية لهم، كما أنهم لا يؤمنون بالحل السياسي، لكنهم يدركون أنَّ أحداث كهذه ستجلب التدخل الدولي الذي سيصبح محرجًا أمام ما ترتكبه دولة الاحتلال بحق آلاف المتظاهرين العزل الذين دخلوا المناطق المحظورة بدون سلاح، ما سيجبر الهيئات الدولية والدول العظمى في العالم على اتخاذ قرارات حازمة بشأن الأوضاع في قطاع غزة. وإذا ما نجح أحد المقاومين في تنفيذ عملية ناجحة داخل الأراضي المحتلة عبر تلك الاختراقات، قبل نهاية بناء الجدار الجديد الذي تؤسس له قوات الجيش على طول الحدود مع غزة، فسيكون المحتل هذه المرة أمام حدث لا يغسل عاره عشرون حربًا ضد الفلسطينيين، وهذا ما سيحدث. وهذه نقطة تحسب للفلسطينيين، لأنهم عرفوا من أين تؤكل الكتف. هذا المشهد المركب لأناس بهذه البساطة متدفقين وهم عراة من السلاح أمام جيش محصن. إنَّ هذه الفكرة هي الحقيقة، وهذه الحقيقة هي الأوطان، هي الأوطان. بيد أنَّ الإحتلال الإسرائيلي يحاول جاهدًا ربط مسيرة العودة الكبرى بالأحزاب الفلسطينية وحركة حماس تحديدًا، كي يعطي لنفسه المبرر لجر القطاع نحو مواجهة عسكرية مباشرة، فهي الأفضل والأنسب له، إلا أنَّ مؤامرة الحصار والتجويع فشلت في قلب الشعب الفلسطيني في قطاع غزة على المقاومة الشعبية. غزة لن تجوع ولن تتخلى عن المشروع الوطني وإذا انفجرت فسيكون الانفجار كما كل مرة سابقة موجهًا صوب وجه الاحتلال. لاسيما أنها تعيد اليوم القضية الفلسطينية لمربعها الأول، ومسيرات العودة حالة وطنية من المستوى الأول ويجب الحفاظ عليها بأعلى درجة ممكنة. هذه المسيرة المتصلة بسلسلة من الفعاليات ستستمر لأكثر من شهرين تقريبًا بشكل متصاعد يصل إلى فعالية مركزية في ذكرى إعلان الاحتلال قيام دولته وذكرى النكبة الفلسطينية في الخامس عشر من مايو (آيار)، وهو اليوم الذي من المتوقع أن تقول فيه كلمتها كاملة: اليوم فعلنا ما يجب وكان القول الفصل. اليوم خرجنا وسنخرج في الأيام القادمة ولينتظروا زحفنا القريب. كاتبة فلسطينية