لقضاء الوقت، أخذت أدردش مع سائق التاكسى فى موضوعات مختلفة، زحمة المرور وغلاء المعيشة والانتخابات القادمة، حتى سألنى السائق: "ما رأيك فى مشروع العاصمة الإدارية الجديدة؟"، قلت: "قد يكون مشروعا له فائدة على المدى الطويل، لكنه لا يمثل بالتأكيد أولوية ملحة فى الوقت الراهن". سألنى مستنكرا: "كيف؟"، قلت: "لو كنت تسكن فى شقة ضيقة مع زوجتك وأولادك الخمسة، ثم حدث لا قدر الله أن تعرضت لأزمة كبيرة، سُرق التاكسى الذى تملكه، مصدر رزقك الوحيد، ولم تعد تستطيع أن تدفع مصروفات تعليم أولادك، وعليك أقساط متعددة، ووالدتك فى المستشفى وتحتاج إلى إجراء عملية جراحية عاجلة، ثم قرر شقيقك الذى يعمل فى الخليج مساعدتك بمبلغ كبير من المال، هل تدفع تكاليف علاج والدتك، وتسدد مصروفات تعليم أولادك والأقساط المتأخرة عليك، ثم تدفع بالباقى مقدم لشراء تاكسى جديد لكى تستطيع أن تعيش وأن تسدد الديون المتراكمة عليك، أم تشترى شقة جديدة فاخرة بحجة أن الشقة التى تسكن فيها ضيقة ومتواضعة؟ رد سائق التاكسى بدون تفكير قائلا: "بالتأكيد أفعل ما قلته أولا". قلت: "فتح الله عليك. نفس الشىء بالنسبة لمشروع العاصمة الإدارية الجديدة، فتلك المدينة ليست هى الحل للأزمة الاقتصادية التى تمر بها مصر حاليا، فمشكلة الازدحام فى الشوارع والميادين والتكدس السكانى الذى تعانى منه القاهرة على مدار عقود لا يقارن على الإطلاق بحجم أزمة البطالة، والتى يزداد معدلها بشكل مرعب. وقرار إنشاء مدينة جديدة، وبتكلفة 45 مليارا من الدولارات، فى ظل ظروفنا وأوضاعنا الحالية، وبعد فترة صعبة من الثورات والفتن والاضطرابات، كان يجب أن يكون الهدف منه انتاجيا، وليس استهلاكيا يتعلق بنقل السفارات وأجهزة الحكومة، بالإضافة إلى بناء مراكز تجارية فاخرة ومدينة ترفيهية على مساحة تعادل أربعة أضعاف مساحة "ديزنى لاند"، إلخ. كان يجب أن يكون قرار إنشاء هذه المدينة يرجع إلى قربها من مصادر بعض المواد الأولية، أو إلى قيام مصانع جديدة تستوعب العاطلين، ومن ثم تمتلئ بالمساكن الشعبية التى تخدم هؤلاء العمال الجدد، لكن بدلا من ذلك نسمع عن أوصاف لمدينة جديدة يفهم منها أنها ستكون أقرب إلى المنتجعات السياحية، فيلات جميلة تحيط بكل منها حديقة وحمام سباحة ويتوسطها ملعب للجولف، وتبنى ليسكنها أفراد ينتمون لنفس الصفوة القديمة، أو أولادهم عندما يستقلون بمنازل خاصة بهم". هز السائق رأسه هزة خفيفة وقال: "لكن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة سيُشغل أيدى عاملة كثيرة، وسيُشغل مصانع الحديد والأسمنت والطوب، والبلد كلها ستستفيد وتنتعش". قلت: "مشروع تعمير الساحل الشمالى، مراقيا، ومارينا، ولافيستا، وكل القرى السياحية التى بنيت منذ الثمانينات وحتى اليوم، كان يُشغل أيدى عاملة كثيرة أيضا، ويُشغل مصانع الحديد والأسمنت والطوب أيضا، ما هو العائد الاقتصادى من هذا المشروع الآن؟ بعد أن بيعت الفيلات والشاليهات واستلمها أصحابها، هل تدر دخلا لمصر الآن، أم إنها مغلقة طوال العام ما عدا ثلاثة شهور فى الصيف؟ الشىء المؤكد هو أن الأشخاص الذين استثمروا أموالهم فى هذا المشروع، قد تضاعفت ثرواتهم عشرات المرات، وتحولوا من رجال أعمال صغار إلى مستثمرين كبار، أما الفقراء فلم يجنوا شيئا من وراء هذا المشروع". منذ أن تم الإعلان عن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة فجأة، أثناء المؤتمر الاقتصادى الذى عقد فى شرم الشيخ عام 2015، وأنا أسأل نفسى نفس الأسئلة ولا أجد إجابة عنها: ما هى جدوى المشروع؟ ما هو العائد من الاستثمار فى هذه العاصمة الجديدة؟ ماذا سيستفيد الفقراء من إنشاء أكبر مدينة ترفيهية فى العالم؟ ماذا سنستفيد من إنشاء مبان حكومية جديدة، ومنتجعات سكنية فخمة، وأكبر مسجد، وأكبر كنيسة، ومطار دولى أكبر من مطار هيثرو فى لندن؟. ردا على انتقاد مظاهر البذخ فى إنشاء فندق الماسة بالعاصمة الإدارية الجديدة، قال الرئيس: "هو إحنا مش من حقنا نحلم ولا إيه؟"، وبدورنا نسأل سيادته: ونحن أليس من حقنا أيضا مياه شرب نظيفة؟ أليس من حقنا أيضا شوارع ممهدة؟ أليس من حقنا أيضا تعليم جيد؟ أليس من حقنا أيضا خدمات صحية ملائمة؟ أليس من حقنا أيضا مرتبات معقولة لمواجهة غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار؟ أليس من حق ملايين المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر أن يتم انتشالهم من الفقر المدقع الذى يعانون منه؟ هذا المنتجع الفاخر فى قلب الصحراء، فندق الماسة، والذى تكلف أكثر من مليار جنيه ولا يشغله أحد، كم مدرسة كان يمكن أن نبنيها لهؤلاء الفقراء بهذا المليار؟ كم وحدة صحية كان يمكن أن نبنيها لهؤلاء الفقراء بهذا المليار؟ كم قرية فقيرة كان يمكن تطويرها بهذا المليار؟ سيادة الرئيس، قبل أن تحلم، يجب أن تنظر إلى الواقع وتعمل على إصلاحه أولا. الإصرار على المضى قدما فى تنفيذ مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، بينما يعانى المجتمع من حاجة شديدة للاستثمار فى مجالات التعليم والصحة والصناعة، وفى تطوير المناطق العشوائية فى مختلف المحافظات، وفى رفع كفاءة الخدمات العامة التى يحتاجها المواطنون فى مجالات النقل والإسكان والصرف الصحى، وهذه مجرد نماذج فقط لأن القائمة طويلة وأوجاع مصر أكثر من أن تحصى، هذا الإصرار لا أجد له تفسيرا مقنعا سوى أن النظام بعد أن فشل فى إصلاح ما أفسده السابقون وما أفسده هو نفسه، يريد الآن أن يخلق "كمباوند" مثالى فى صورة عاصمة جديدة، لا يسكن فيه أفراد النظام فقط، وإنما يسكنون ويعملون ويديرون مصالحهم ويعلمون أبنائهم ويستمتعون بكل وسائل الراحة والترفيه دون الحاجة إلى الخروج منه، فقد قاموا من قبل ببناء التجمعات السكنية الراقية فى أطراف مدينة القاهرة، التجمع الخامس والقطامية ومدينة 6 أكتوبر والشيخ زايد، ووجدوا أنهم مضطرون فى النهاية لتحمل إزدحام القاهرة وقبحها وضوضائها والمناظر البشعة على جانبى الطريق فى المحور والطريق الدائرى للوصول إلى مقار أعمالهم والعودة منها، كما أختبروا ما يحدث عندما تندلع الثورة وتسود الفوضى. إذن، ما الحل؟. كان الحل أن نترك القاهرة بكل قرفها ومشاكلها وعشوائياتها ومناطقها الفقيرة القذرة وسكانها المرهقين الذين لا يكفون عن الشكوى من سوء الخدمات وارتفاع الأسعار، ونذهب بعيدا إلى مدينة حديثة، شوارعها عريضة وميادينها فسيحة ومبانيها مصممة على أحدث طراز، مدينة مؤمنة من جميع الاتجاهات لمنع تسلل المتلصصين والفضوليين الحاقدين، مدينة مخصصة لرجال النظام وأسرهم وعائلاتهم ومحاسيبهم والمقربين منهم فحسب، مدينة يعيش فيها المرضى عنهم فقط، أما المغضوب عليهم أو المضحوك عليهم من سكان العاصمة القديمة القذرة المسماه بالقاهرة، فمصيرهم سيكون نفس مصير باقى محافظات مصر فى الدلتا والصعيد، الإهمال والتجاهل والنسيان، وكأن لسان حال النظام يقول: فلنتركهم يعيشون فى القاهرة، يتصارعون مع بعضهم البعض من أجل لقمة العيش، ولنذهب بعيدا عنهم ونرتاح من إزعاجهم ومطالبهم التى لا تنتهى. وبالتأكيد ستكون العاصمة الجديدة فى حاجة إلى موظفين وخدم للقيام بالأعمال الإدارية والمتواضعة، ولا بد أن يصل هؤلاء إلى أماكن عملهم مبكرا قبل استيقاظ السادة، إذن لا مانع من بناء بعض الوحدات السكنية الشعبية لهم على أطراف المدينة، أو توفير وسائل مواصلات تنقلهم من القاهرة إلى أماكن عملهم بسرعة. السؤال: من سيدفع ثمن تكلفة بناء عاصمة الصفوة تلك؟ الإجابة: سيدفع ثمنها بالطبع نحن، أفراد الشعب المنهك والمطحون الذين لن يعيشوا فيها ولا حتى يمروا بشوارعها وحدائقها.