شاهدت هذا الأسبوع الفيلم الأمريكى Darkest Hour أو "الساعة الأكثر ظلمة"، فى سينما زاوية بوسط البلد. يصور الفيلم جزءا من حياة القائد البريطانى العظيم ونستون تشرشل، يصور الذروة فى تلك الحياة، الأيام الأولى لتوليه منصب رئيس وزراء بريطانيا فى أحلك لحظات بلاده. ففى حياة كل قائد عظيم، لحظة خاطفة تأتى فى صورة أزمة كبرى والتى تدفعه للإقدام على أعظم ما أقدم عليه، قوة غامضة تشده للتاريخ، تحول مفاجئ يحمل صاحبه إلى الذروة، أو يهوى به إلى الحضيض. والفيلم يكشف للمشاهد سر تلك اللحظة الخاطفة، وسر تلك القوة الغامضة، وسر ذلك التحول المفاجئ الذى فتح لونستون تشرشل أوسع أبواب التاريخ. تبدأ أحداث الفيلم فى العاشر من مايو عام 1940، حين اجتاحت قوات هتلر أراضى هولندا وبلجيكا، وسحب البرلمان البريطانى الثقة من رئيس الوزراء المحافظ نيفيل تشامبرلين، الذى ثبت للإنجليز ضعفه وعدم قدرته على مواجهة الموقف، والذى كان يعانى سرا من مرض عضال. وهكذا منح كبار أعضاء حزب المحافظين منصب تشامبرلين إلى تشرشل، لأنه المرشح الوحيد الذى يمكن أن تقبل به المعارضة. لكن ظلت لدى هؤلاء الأعضاء فى الوقت نفسه شكوكهم حيال رئيس الوزراء الجديد، ذاك السياسى المخضرم غريب الأطوار، الذى أدت قراراته الخاطئة فى حملة جاليبولى فى عام 1915 – حينما كان وزيرا للبحرية البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى – إلى تكبد القوات البريطانية خسائر فادحة. وبينما طالب بعض الأعضاء بقبول الهدنة والتفاوض مع العدو النازى، أصر تشرشل على المقاومة، لكى يثبت ليس لمعاصريه فحسب، بل للتاريخ، أنه فى عداد القادة العظماء الذين يتمسكون بالمبادئ، فلم يهادن هتلر، رغم اجتياحه لأوروبا وانتصاراته الساحقة، بل اختار أن يحاربه بكل ما لدى بريطانيا من قوة. وفى أول خطاب له فى مجلس العموم، وقف تشرشل يخاطب شعبه قائلا: "ليس لدى ما أقدمه لكم سوى الدماء والدموع والعناء والعرق". وكانت أول معركة خاضها تشرشل ضد هتلر هى معركة دنكيرك التى تمكن فيها من إنقاذ 300 ألف جندى بريطانى كانوا موجودين فى الأراضى الفرنسية عندما بدأ هتلر فى غزو فرنسا. وقد حاول هتلر حصارهم للقضاء عليهم، ولكن تشرشل تمكن من استعادتهم، وذلك بتوجيه الأمر إلى أربعة آلاف جندى فى كاليه للاشتباك مع الألمان فى معركة انتحارية، خاسرة حتما، لصرف أنظارهم إلى حين عن القوات الكبيرة المحاصرة فى دنكيرك تحت رحمة الطيران الألمانى. وفى الوقت نفسه، طالب تشرشل المواطنين الإنجليز بالإبحار بقواربهم الصغيرة للقيام بواحدة من أعظم عمليات الإجلاء فى التاريخ. وقد عاد الجنود إلى وطنهم مخلفين ورائهم كل ما كان معهم من معدات حربية ومدافع ثقيلة، لا يحملون سوى البنادق، ولكن مجرد عودتهم كانت أول نصر لبريطانيا فى الحرب. لم يصور المخرج البريطانى جو رايت سوى مشهد قصير لذاك الإبحار الأسطورى لقوارب الصيد الصغيرة من على شواطئ إنجلترا متجهة إلى دنكيرك، بجانب بضع لقطات للقتال العنيف الذى دار فى فرنسا. أما الجزء الأكبر للفيلم فيصور القادة السياسيين وهم منهمكون مع بعضهم البعض فى نقاشات عنيفة لا تنتهى. ومع ذلك، تعامل رايت مع عمله السينمائى الحافل بهذه النقاشات السياسية، وكأنه فيلم حركة شديد الإثارة، بفضل التصوير البارع، والمونتاج السريع، وجمل الحوار القوية المؤثرة التى كتبها أنتونى ماكارتن. حول رايت مقر مجلس الوزراء البريطانى، إلى ما يشبه المتاهة وسط إضاءة خافتة، وغرف كئيبة تحت سطح الأرض، مظلمة ومعبقة بدخان السجائر، وطرقات ضيقة، وأبواب موصدة تفتح وتغلق بعنف، وأصوات نقاشات حادة عالية، ليضاعف من تأثير حالة التوتر والعصبية والإضطراب فى الساعة الأكثر ظلمة فى تاريخ بريطانيا. لكن هذا الإخراج البارع ليس وحده سر نجاح الفيلم. فتكمن قوة الفيلم أيضا فى براعة الممثل الكبير جارى أولدمان فى أداء شخصية ونستون تشرشل. اكتسب أولدمان وزنا زائدا ليقارب حجم تشرشل، ولعب المكياج دورا كبيرا فى جعله يشبهه إلى حد كبير. لكن لا يقتصر الأمر على تشابه المظهر الخارجى فحسب، إذ استطاع أولدمان بموهبته الفذة التقاط روح شخصية تشرشل، هذا الرجل البدين الذى يقترب من السبعين، والذى لا يفارق السيجار شفتيه، ولا يستطيع التوقف عن شرب الخمر أو التحكم فى غضبه، والذى تنتابه مشاعر وإنفعالات مضطربة، بين الإكتئاب الحاد والعصبية الشديدة، وبين القسوة على الآخرين والقسوة على النفس، ونجح أولدمان فى تجسيد كل هذا بقدر هائل من الدقة والحيوية. وقد جعل أولدمان أى ممثل سيتصدى لهذه الشخصية لاحقا يرتعد خوفا، واستحق عن جدارة الحصول على جائزة الجولدن جلوب قبل أيام، وبات أقرب المرشحين للحصول على جائزة الأوسكار أيضا. أما كاتب السيناريو أنتونى ماكارتن فقد عالج فيلمه بحذق ومهارة بالغة، فجعل أحداثه تدور خلال شهر واحد فقط بصورة شبه وثائقية. وكان أفضل ما تضمنه السيناريو هو الصراع القوى بين ونستون تشرشل من جهة، ونيفيل تشامبرلين (رئيس الوزراء السابق) وفنسنت هاليفاكس (وزير الخارجية) من جهة أخرى، وكلاهما راغب فى التفاوض مع الزعيم النازى هتلر والتوصل إلى اتفاق سلام مع ألمانيا. ولعل براعة السيناريو تكمن فى أنه لم يجعل المشاهد يتأكد منذ البداية أن السياسة المتشددة التى تبناها تشرشل كانت هى النهج الصحيح، وأن خصومه ليسوا سوى جبناء. فتشدقه حول القتال إلى آخر رجل، يمكن أن يبدو لنا متطرفا وقاسيا ويخلو من الرحمة، كما أن دعوة هاليفاكس إلى إجراء مفاوضات السلام، يمكن أن تبدو عقلانية إلى حد كبير. ورغم أن السيناريو لا يجعل المشاهد بالتأكيد يصل إلى مرحلة تأييد موقف هاليفاكس، الذى تظهره الأحداث متملقا ووصوليا، فإن السيناريو يتيح للمشاهد الفرصة للتعرف على الأسباب التى دفعت البعض إلى عدم تأييد تشرشل. وفى لحظة مصيرية فارقة يبدو فيها تشرشل عاجزا عن التصدى لإلحاح غريميه، ويكاد يوافق على التفاوض مع العدو النازى، يختفى تشرشل عن الأنظار. ينزل من سيارته الرسمية فجأة، ويركب قطار مترو الأنفاق، فى أجمل مشاهد الفيلم من وجهة نظرى. فيفاجأ الناس بوجود رئيس الوزراء ونستون تشرشل بينهم ويرتبكون، لكنه يمازحهم ويبادلهم الحديث، ويسألهم عن رأيهم تجاه ما يجب أن تفعله بريطانيا إزاء العدوان النازى. فيجمع ركاب عربة القطار بمنتهى الحماس والإصرار على مواجهة هتلر وعدم الاستسلام لعدوانه. يُطمئن هذا الحماس والإصرار تشرشل ويدفعه إلى إتخاذ القرار السليم، فيذهب إلى مجلس العموم ليواجه أعضاء البرلمان بروح معنوية عالية مستمدة من إرادة الشعب، ويلقى خطابا تاريخيا، يرفض فيه أن يُقدم على أى تنازل أو مهادنة مع العدو الغاشم، ويقول: "سنقاتل على سواحلنا، سنقاتل على تلالنا، سنقاتل فى مدننا وقرانا، ولن نستسلم أبدا". هذا القرار الشجاع من قائد استطاع أن يستقرئ إرادة شعبه، واستجاب لها، ووقف ممثلا لها بكرامة وإصرار، هو ما جعل ونستون تشرشل شخصية خالدة فى التاريخ الحديث، ونموذجا مذهلا لرجل فاق المتوقع منه، وتحول من إنسان عادى إلى قائد ملهم استطاع بصموده أن يحقق الانتصار على أعتى قوة عسكرية على وجه الأرض فى ذلك الزمان.