تسود حالياً في المنطقة وخصوصاً في محميات الخليج نغمة أن الصهاينة المحتلين لفلسطين يمتّون بصلة قربى بالعرب وأنهم أبناء عمومتهم! والهدف من ذلك واضح هو التمهيد لتطبيع العلاقات معهم، رغم أن الفحص الجيني كذب هذه الخرافة بالإضافة إلى أبحاث باحثين عربا وأجانب حول أصل اليهود الأوروبيين الذين انطلقت بينهم الدعوة الصهيونية في القرن التاسع عشر. ولعل أول إشارة إلى عدم وجود أي رابطة بين يهود الكيان الصهيوني واليهود الأولين جاءت من العالم المصري المبدع جمال حمدان في دراسته المعنونة ب "اليهود أنتروبولوجياً "التي صدرت في شباط 1967، ليتبعه الأديب والمؤرخ البريطاني اليهودي من أصل مجري في كتابه الذي نشره تحت عنوان "مملكة الخزر أو القبيلة الثالثة عشر" في العام 1976 وقد اختفى هذا الكتاب من معظم المكتبات الأمريكية، والنسخة الوحيدة التي كانت في مكتبة الكونغرس الأمريكي اختفت هي الأخرى، كما جاء في صحيفة "واشنطن ريبورت لشؤون الشرق الأوسط" في عددها الصادر في حزيران 1991، وبعد أكثر من ثلاثين عاماً نشر المؤرخ الألماني اليهودي شلومو ساند كتابه المعنون ب "إختراع الشعب اليهودي " ليؤكد حقيقة أن لا وجود لشعب أو عرق يهودي وأن اليهود لا ينحدرون من أصول اليهود القدامى.
وقد تتبع كوستلر أصول يهود أوروبا ليستنتج ويبرهن بالدليل القاطع بأن لا علاقة لهم باليهود الأولين، أي لا علاقة لهم بالمنطقة العربية لا من قريب ولا من بعيد، وأنهم يعودون في أصولهم إلى مملكة الخزر التي ازدهرت بين القرنين السابع والحادي عشر في منطقة قزوين، والتي اعتنق خاقانها الديانة اليهودية لأسباب سياسية حفاظاً على استقلالها بين القوتين الأعظم في ذلك الوقت الخلافة العباسية الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية المسيحية، لتصبح اليهودية هي الدين الرسمي لمملكة الخزر.
ومع الصراعات والحروب التي شهدتها منطقة الخزر مع الروس والبيزنطيين والمغول وتلاشي مملكتهم، انمحى ذكر الخزر في التاريخ، فانتشروا في كل أنحاء أوروبا لتبدأ فصول معاناتهم من إخوانهم الأوروبيين المسيحيين في العصور الوسطى، عصور الظلام والجهل والخرافات واضطهاد الأقليات حتى المسيحية منها، ومن ضمنها اليهود كونها أقلية دينية وفوق ذلك تتحمل وزر الروايات الأولى لنشأة المسيحية لا سيما رواية صلب المسيح عليه السلام، فارتكبت بحقهم المذابح وطردوا أكثر من مرة من هذه الدولة الأوروبية أو تلك، ففي العام 1290طُرِدوا من إنكلترا ومن فرنسا في العام 1391 ومن النمسا في العام 1421 ومن إسبانيا في العام 1492 ومن البرتغال في العام 1498، وحُرِموا من ممارسة أنشطة تجارية وحرفية، فاحتكروا نشاط الإقراض بالفوائد بعد منع الكنيسة له، فأعطى لهم هذا النشاط غير الشعبي سُمعة غير أخلاقية تتعلق بالربا والاستغلال، وهو ما جلب عليهم نقمة وكراهية الشعوب لهم . ومع اندلاع الثورة الفرنسية بدأت أحوالهم تتحسن نحو الاندماج في مجتمعاتهم، لاسيما في أوربا الغربية، لكن مع انتهاء دورهم الوظيفي في أوربا الشرقية خلال عملية الإنتقال من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي وتزايد العداء لهم فيها، بدأت موجات الهجرة بينهم نحو أوروبا الغربية، فووجهوا ليس بنقمة شعوبها فقط بل واليهود فيها الذين اندمجوا مدفوعين بالخوف من عودة العداء لهم من جديد بسبب هؤلاء القادمين البدائيين. وبالطبع لم تقف حكومات أوروبا الغربية مكتوفة الأيدي فعندما استشعرت خطر هذا التدفق عليها أغلقت أبوابها أمام المهاجرين اليهود، فبريطانيا مثلاً حدَّت من دخول اليهود إلى أراضيها بشكل كبير حتى العام 1900 .
ولذلك ليس من قبيل المصادفة أن يكون رواد الصهيونية الأوائل من أولئك اليهود المندمجين في أوروبا الغربية، كالفيلسوف الألماني اليهودي موزس هس مؤلف كتاب "روماوالقدس"، وناتان بيرنباوم اليهودي النمساوي من أصل ألماني الذي اشتق لفظة "الصهيونية" بمدلولها السياسي الحديث في مقالته الصادرة باللغة الألمانية "التحرر الذاتي " التي نشرها في العام 1890، وحتى تيودرو هرتزل اليهودي النمساوي المجري الذي كان من دعاة اندماج اليهود في بلدانهم لينقلب على ذلك بعد حادثة الضابط اليهودي الفرنسي الفريد دريفوس.
وهذا يؤكد أن المسألة اليهودية برمتها أوروبية المنشأ بجذورها وجلاديها وضحاياها. وفِي جميع الأحوال ما كان للدعوة الصهيونية أن تلقى صدى في ذلك الوقت إلا في ظل ازدهار الاستعمار الكولونيالي في القرن التاسع عشر، وحروب المستوطنين البوير في جنوب أفريقيا، والاحتلال الاستيطاني الفرنسي للجزائر . وليس من قبيل المفارقة أن أوائل من تلقف الدعوة الصهيونية هم الإستعماريون المعادون لليهود كجوزيف تشامبرلين ولويد جورج وآرثر بلفور صاحب الوعد المشهور.
وما فعلته أوربا الغربية في القرن التاسع عشر بإغلاق حدودها أمام يهود أوروبا الشرقية تكرر خلال الحرب العالمية الثانية، عندما أغلقت الدول الأوربية والولايات المتحدة وكندا حدودها أمام اليهود الألمان الفارين من الحكم النازي لتجبرهم على التوجه إلى فلسطين، وهذا يثبت بالدليل القاطع نوايا الدول الاستعمارية من تبني الدعوة الصهيونية لحل مشكلتها مع يهودها بالتخلص منهم وإبعادهم إلى فلسطين وإبقاء الهيمنة على المنطقة بإقامة الكيان الصهيوني في قلبها، والذي انتهج منذ ذلك الوقت نهجاً عدوانياً توسعياً بلغ ذروته في ظل حكومة نتنياهو الحالية.
عندما دخل الجنرال الفرنسي غورو دمشق توجه إلى المسجد الأموي حيث ضريح صلاح الدين الأيوبي فداس على القبر وقال جملته المشهورة "هاقد عدنا يا صلاح الدين" ، وعندما دخل الجنرال البريطاني أللنبي القدس قال جملته المشهورة أيضاً "الآن إنتهت الحروب الصليبية" ، ألا يدل هذا على أن تبني الدول الغربية للدعوة الصهيونية إنما يندرج تحت عنوان الحروب الصليبية وعودة الغرب للمنطقة ومحاولة ترسيخ وجودها عبر إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين وإن اتخذ طابعاً يهوديا وليس مسيحياً ، وهذا يعني بالنتيجة أن الصراع الحالي مع الكيان الصهيوني لا يمكن حسمه لا بالتحرير ولا بصيغة تسوية منصفة، إلى حد ما، إلا بمواجهة الراعي والداعم الغربي له، فهلا أعدنا تصويب بوصلتنا نحو العدو الحقيقي؟.