يمضي بنا العمر في غفلة فتتغير معه ملامحنا وأحلامنا حتي تكاد تدركنا الشيخوخة، لكن تبقي القضية الفلسطينية وليدة الميلاد وكأنها ابنة يوم واحد، صامتة وساكنة لم تراوح مكانها القديم منذ سنوات طويلة. عاشت قضية العرب لعقود أسيرة نفس الوجوه والكلمات الحماسية، رهينة "القمم التاريخية" التي تنتهي دوماً بعبارات فضفاضة وغير مفهومة مثل "الاتفاق علي مواصلة المشاورات والاتصالات والمجهودات"، وهي أغلب الظن سياسة ترمي إلي إفقاد العدو توازنه عبر إشعاره بالملل ثم الإجهاز عليه تماماً بسلاح "الشجب والإدانة"، وبهذا يتمكن الحكام العرب بمناورة ذكية من استعادة الأرض المسلوبة دون إطلاق رصاصة بندقية أو إراقة نقطة دماء واحدة. ما سبق لا يبدو ساخراً بالقدر الكاف للتعبير عن واقع غارق حتي القاع في الحماقة واللامنطق.. فمنذ نعومة أظافرنا لا نسمع من الجانب العربي إلا تهديدات فارغة وخطاباً عنترياً يفتقد الصدق، وعلى الجانب الآخر نرى الكيان الصهيوني وهو يسير بخطوات ثابتة ومستقرة نحو تنفيذ خطته لابتلاع المنطقة بالكامل، دون أن يُحدث ضجيجاً أو يأبه حتى لأصواتنا الناشزة وحناجرنا الجوفاء. قبل أيام أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب قضية العرب إلى أحضان العرب وكأنه أراد أن يُشعرنا بالمزيد من العار والإهانة.. كان يعلم مسبقاً أن أفاق أي حاكم عربي لن تصل أبعد من الإدانة المهذبة والإعراب عن الأسف احتجاجاً علي نقل السفارة الأمريكية إلي القدس، وهو القرار الصادم الذي وصفه سياسيون بأنه يفتح "أبواب الجحيم"، وذهب بعضهم إلي اعتباره أشبه بموت إكلينيكي للقضية الفلسطينية التي ظلت سنوات تنازع لأجل البقاء على قيد الحياة. أطلق ترمب بقراره لجام الحناجر العربية من جديد، فأخرج البعض أجود ما لديهم من كلمات بطولية وجهادية خصيصاً لهذه المناسبة التي باتت تتأرجح بين الحضور والغياب.. في المقابل نشطت "دبلوماسية الملل" العربية التي مارست تقاليدها العريقة بالنأي عن أي انفعالات أو نزق، والتمسك بسياسة "اصبر على جار السو لحد ما يزهق"، بينما لم يجد كثيرون إلا الحرب بسلاح "الهاشتاج" لمواجهة العدو اللدود، وبمرور الأيام سرعان ما نسي الجميع كل شيء، فتباطأت التحركات الرسمية وخفت دوي الحناجر تدريجياً حتي خرست تماماً علي وقع المزيد من الهزائم والتفريط والخيانة. نفهم جيداً أن الضعيف لا يملك إلا الصراخ والشكوي أمام ضربات قوي باطش لا يرحم، ولكن ما لا نفهمه ونريد له إجابة حاسمة لترتاح صدورنا الغاضبة وعقولنا الحائرة: هل يريد حكامنا حقاً حل قضية فلسطين؟ أما زالوا يؤمنون بها؟ بحقوق شعبها في الأرض والحرية؟ هل يدركون حقيقة مسئولياتهم الثقيلة أمام التاريخ؟ وماذا أعدوا من قوة لاسترداد الحق العربي من العدو؟.. والأهم: هل ما زالوا يعتبرون الكيان الصهيوني عدواً وغاصباً ومهدداً للوجود العربي؟. هذه المرة يختلف المشهد الفلسطيني كثيراً عن ذي قبل، فما شهده من تحولات وتقلبات علي مدار السنوات الفائتة جعلته فاقداً للشهية والشرعية عند الغالبية.. فالمشهد الذي يتسيد الواجهة الآن يخلو منه اسم الكيان الصهيوني ضمن قوائم الأعداء بعد أن استبدلناه بأعداء جدد مسلمين وعرب.. هذه المرة لم نعد نقاوم الصهاينة كما اعتدنا سلفاً بل صرنا نقاوم بعناد من يحارب الصهاينة فعلاً لا قولاً، من يقاوم بالرصاص وليس بالإدانة، وتم تصدير هذا "الغول" الجديد للشعوب العربية بوصفه الأخطر علي أمانهم وآمالهم والمدمر لحياتهم ومستقبلهم. أبدى الحكام العرب جسارة في مواجهة العدود الجديد لم نشهد مثيلها مع الكيان الصهيوني.. تنحت دبلوماسية الملل عن الصورة تماماً وتحركت دبلوماسية أخري أشد جرأة تنوعت قراراتها بين قطع إتصالات ووقف تمويلات وإغلاق قنوات، ناهيك عن المؤتمرات الرسمية التي عُقدت في ساعات معدودة وتباري فيها الحاضرون بخطاب كراهية وعدائي، حتي تبدي للجميع أن نُذر الحرب صارت قريبة، وأن الجيوش العربية المدججة بأحدث الأسلحة الأمريكية ستتحرك أخيراً بعد سُبات عميق للانقضاض علي "ثلاثية الشيطان" وهي إيران وحزب الله وحماس. لم يخطئ ترمب ونتنياهو في انتزاع ما يريدانه من أفواه أسد عجوز تكسرت أنيابه وتآكلت أظافره المدببة، ولم يعد يملك إلا زئيراً متحشرجاً لا يُفزع حتي فأر صغير.. كلاهما كان يعلم جيداً أن الأسد فور أن يُنهي ضجيجه سيستجديهما طلباً للطعام والحماية، حتي لو اضطر إزاء إرضاء سيده وحارس عرشه لأن يأكل أولاده وعائلته وقافتله بالكامل. نصيحتي إليك أيها القارئ هي ألا تلتفت لصرخات هؤلاء المتبارين بالكلمات الحماسية على الشاشات بحثاً عن بطولة وهمية، وألا تلتفت لهؤلاء الذين يريدونك مجرد دُمية يحركونها كما يشاءون، فتحب ما يحبون وتكره ما يكرهون، وألا تلتفت أيضاً لو صادفت أحد الصهاينة وهو يسب عروبتك وضعفك بنبرة معايرة قائلا: "يا منطقة مفيهاش راجل".. فنصيحتي أن تحافظ على هدوئك قدر الإمكان، وأن تلق الإهانة خلفك وتبدو غير مكترث لها، ثم غافله بعد أن تستجمع شجاعتك وعافيتك، واصرخ في وجهه بتحد وكبرياء وإصرار قائلاً: "الشتيمة بتلف تلف وترجع لصاحبها تاني".