باولو كويلو له قصية قصيرة بعنوان "مشنقة" تفضح المانفيستو الخاص بالطغاة، وكتابهم المقدس، به يتمسكون، وعلى أساسه يتصرفون في شئون الرعية، وبحذافيره يمضون طاغية في إثر طاغية. تقول وقائع القصة أن البلدة كانت نموذجاً للجنة على الأرض، يفعل مواطنوها ما يحلو لهم، تسير الأمور فيما بينهم على أفضل ما يكون، لم يكن بالسجن أحد، ففكروا أن يحولوه متحفاً، أما القاضي فكان يقضي معظم وقته في المنزل، ولا يذهب إلى المحكمة إلا لتغيير الجو ومقابلة الأصدقاء القدامى. كان الجميع سعيداً باستثناء العمدة، الذي كان يبحث عن السيطرة فلا يجدها، ولم ينجح العمدة في أن "يخترع" السلطة، حتى بعد أن سن عدداً من القوانين العبثية التي انصرف الناس عنها وتجاهلوها، تفتق ذهن العمدة عن الحل، سارع بجلب عدد من العمال من البلدان المجاورة، وأعطاهم أوامر ببدء العمل على الفور في الميدان الرئيسي للبلدة، بعد أن أحاطوا أنفسهم بأكسية ضخمة من القماش بحيث لا يزعجهم في عملهم أحد. والواقع أن أحداً لم يهتم بما يصنعون، أو بالأحرى لم يكترث الناس بما يجري خلف ظهورهم، على بعد أمتار من المكان كان المارة يسمعون صوت بعض المطارق، أو مناشير الخشب، أو أحد الملاحظين وهو يوجه العمال، وفيما عدا ذلك لم يكن هناك ما يلفت النظر فيما يصنعون. ولكن العمدة كان يراقب ويتابع تطور العمل بشوق وإعجاب، حتى جاء موعد الافتتاح. دعا العمدة جميع المواطنين لحضور الحفل الذي كان بسيطاً ومهيباً، وسط فضول متزايد أزاح العمدة الستار عن المفاجأة، مد الناس أبصارهم، وتيقنوا مما يرون أمامهم، في البداية تهامسوا فيما بينهم، ثم استوعبوا الأمر في النهاية، نعم: إنها مشنقة. كانت المشنقة محكمة الصنع حتى إنها لاقت استحسان الجميع، وكان الحبل الذي يتدلى منها مزداناً بقطعة حديدة لامعة، انفض الاحتفال، لم يعلق العمدة بكلمة، وآثر المواطنون أيضاً الاكتفاء بالمشاهدة، وانصرفوا. في أقل من أسبوع تزايدت الهمهمة عن سبب وجود المشنقة، لابد أن بيننا مذنب، مجرم، قاتل، من يكون؟، هل هو أنا؟، علي أن أحمي نفسي، الهجوم خير وسيلة للدفاع، سأبدأ بهم قبل أن يتعشوا بي، وتغير شكل الحياة، استطالت طوابير الانتظار أمام كاتب العدل أطول من طوابير الخبز، شرع الناس في تسجيل كل المستندات التي كانوا فيما مضى يستغنون عنها بكلمة الشرف، وشهادة الشهود، وبدأ القاضي في الذهاب إلى المحكمة مرتين في الأسبوع، ثم كل يوم، ثم في فترة الظهيرة، ثم عين مساعدين، وبدأ الناس يتقربون إلى العمدة، ويتزلفون له ويستشيرونه في أمور القانون وغيرها، خشية أن يقعوا في مساءلة قانونية. تقول الأسطورة: إن المشنقة لم تستخدم قط، لكن وجودها في الميدان كان كفيلاً بتغيير كل شيء. تنتهي قصة كويلو، ولكن قصة الحياة مستمرة على منوالها، صاحب الرياسة يتحكم في الناس بطرق شتى، بتفريقهم وراء مصالحهم الذاتية، بإيقاظ روح المصلحة الشخصية وتنميتها على حساب المصلحة العامة، كل فرد يقول نفسي أولاً، فيتحكم فيهم أكثر، يسود قانون القوة، وتتوارى قوة القانون، كلمة العمدة هي القانون، ورضاه هو الذي يحقق المصلحة، وغضبه يمكن أن يذهب بالمغضوب عليهم إلى وراء الشمس. تمكن العمدة من أن يصنع لنفسه سلطة، وسطوة، وأتباع، وإعلام وأبواق وجوقة من المنافقين الأفاقين، واستطاع أن يستذل الناس أكثر فأكثر بالخوف الذي شاع بين جنبات البلدة التي كانت آمنة مطمئنة. لم يلحظ الناس ما فعله طالب الحكم بينهم، لم يستوعبوا في البداية لماذا صنع المشنقة، ولم يفهموا أنها هي الفزاعة الذي سوف تحيل حياتهم إلى جحيم على الأرض بعد أن كانت جنتهم أنهم يعيشون آمنين بلا خوف، يتعاملون بكلمة الشرف ويتخلقون فيما بينهم بالأخلاق الحسنة، ويراعون حقوق بعضهم البعض فلا يعتدي واحد على حق ليس له، حتى خلت البلدة من السجناء، وبارت صناعة السجان، وحين استيقظت مخاوفهم، زادت شرورهم، وعاد القاضي إلى عمله، وعاد السجن ليمتلئ بالمساجين، وعاد العمدة إلى ما كان فقده من سيطرة وتحكم فيهم. أنه الخوف الراعي الرسمي للطغاة، وهو الوسيلة الوحيدة التي تبقيهم فوق كراسي السلطة ومقاعد التسلط.