نجحت مساعٍ دولية لرأب الصدع بين فايز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني في ليبيا المعترف بها من قبل الأممالمتحدة، والقائد العسكري، خليفة حفتر، الذي تسيطر قواته على شرقي البلاد، حيث وقع الطرفان أمس اتفاق مصالحة في العاصمة الفرنسية باريس، وهو اتفاق أشاد به الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في مؤتمر صحفي، ووصفه بالشجاعة التاريخية للسراج وحفتر، مشيرًا إلى أنهما من الممكن أن يصبحا رمزين للمصالحة في ليبيا. البيان المشترك تعهد البيان المشترك المكون من عشر نقاط بالتزام الطرفين "السراج-حفتر" بوقفٍ مشروط لإطلاق النار، وتنظيم انتخابات رئاسية ونيابية في أقرب وقت ممكن. وجاء في البيان المشترك أن الحل في ليبيا لن يكون إلا سياسيًّا، وأن يمر عبر مصالحة وطنية تجمع بين الليبيين كافة، كما تعهد البيان ببناء سيادة القانون في دولة تكافح من أجل السيطرة على جماعات مسلحة اغتمنت فرصة فراغ السلطة في أعقاب سقوط نظام الرئيس الراحل، معمر القذافي، مع تعهد البيان بالسعي لتأسيس دولة مدنية، بما يضمن وحدة الدولة، وتعهد حفتر والسراج أيضًا بتوحيد المؤسسة العسكرية، والتنسيق في ملف مكافحة الإرهاب، حيث التزم الطرفان بالعمل على إدماج المقاتلين الراغبين في الانضمام إلى القوات النظامية، ونزع السلاح وتسريح باقي المقاتلين وإعادة إدماجهم في الحياة المدنية. وأشار البيان إلى التزام الطرفين بوقف إطلاق النار وتفادي اللجوء إلى القوة المسلحة في جميع المسائل الخارجة عن نطاق مكافحة الإرهاب، وحماية الأراضي الليبية وسيادة البلاد، كما التزما بإدانة كل ما يهدد استقرار ليبيا. وطلب الطرفان من مجلس الأمن الدولي دعم المسار الذي ينتهجه هذا البيان، ومن الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة القيام بالمشاورات اللازمة بين مختلف الأطراف الليبية. الاتفاق على وقع الخلافات السابقة كان فايز السراج قد سعى إلى كسب دعم عدد من المليشيات والسياسيين منذ توليه السلطة في عام 2016، في حين رفض حفتر الاعتراف بحكومة الوفاق الوطني بزعامة السراج، وقاد معركة ضد المتشددين الإسلاميين، كما أعلن مؤخرًا الانتصار في بنغازي ثاني أكبر المدن الليبية. ويرى مراقبون أن هناك ضمانة قد تكفل إكمال الاتفاق الذي أبرم بين حفتر والسراج في باريس، فكلا الرجلين يحصلان على شرعية من نوع ما، فالسراج لديه شرعية خارجية دولية، حصل عليها من اتفاق الصخيرات، وحفتر يحظى بشرعية داخلية من خلال برلمان طبرق، ومن خلال التواجد العسكري القوي له في بنغازي ومناطق في الشرق الليبي والسيطرة على الهلال النفطي، وفي حال استمرار هذا التفاهم بين السراج وحفتر، فستكون هذه المرحلة الأولى في طريق الوفاق بين الأطراف الليبية المتنازعة. الجدير بالذكر أن هذا الاتفاق الذي وقع في باريس يتشابه إلى حد بعيد مع تلك المبادرة التي كان السراج قد دعا إليها قبل أيام، وقوبلت برفض حتى من الصف المؤيد للسراج نفسه، الأمر الذي قد ينذر بوجود بعض المناوآت الليبية لهذا الاتفاق. ومع وجود نظرة ليبية بأن هذا الاتفاق قد لا يكون المثالي، إلا أنه يتمتع بتوافق بين أقوى رجليين في ليبيا السراج وحفتر. وحتى الآن تفصلنا 8 أشهر عن المبادرة التي أطلقها السراج حول إجراء انتخابات في شهر مارس المقبل 2018، وخلال هذه الفترة قد يكون هناك اختلاف على آلية التطبيق، فهناك عوامل أربعة يجب أن تتوافر لتطبيق الانتخابات الرئاسية والتشريعية في ليبيا: عملية التأمين، وهي التي لا بد من تدارسها، ووضع قانون انتخابي، وتوفير الدعم المالي لها، وأن يكون الاتفاق السياسي حاضرًا في هذا المشهد. وطالما تعثرت اتفاقات السلام السابقة في ليبيا جراء الانقسامات الداخلية بين مجموعة كبيرة من الجماعات المسلحة المتنافسة، التي ظهرت خلال الفوضى والقتال منذ أطاح الناتو بمعمر القذافي عام 2011. فعندما دعمت الأممالمتحدة تشكيل حكومة وطنية برئاسة السراج أوائل العام الماضي لم يضع ذلك حدًّا للصراع الذي احتدم مطلع 2014، وهو عام الانقسام الليبي. في ذلك العام رفض الإسلاميون الاعتراف بهزيمتهم في الانتخابات التشريعية ونقل السلطة إلى البرلمان الجديد، ما شطر ليبيا إلى حكومتين، أولاهما لم تحظَ ولا برلمانها باعتراف دولي، لكنها استبقت باتخاذ طرابلس مقرًّا لها. أما البرلمان المعترف به فقد حظي بمظلة عسكرية شكلها قائد عسكري سابق في الجيش هو خليفة حفتر، الذي تنامت قوته، وتلقى دعمًا من قوة إقليمية أبرزها مصر والإمارات، وبهذه القوة انتقل البرلمان المعترف به شرقًا إلى طبرق. وصلت ليبيا إلى عام 2014 بوضع مُتردٍّ أمنيًّا واقتصاديًّا، فبعد مقتل القذافي 2012، نشب مطلع العام الذي سبقه تداعي إنتاج ليبيا النفطي إلى الربع، وسيطرة مجموعات متشددة على بنغازي، كما سيطر تنظيم داعش على سرت. في البداية تشكلت حكومة السراج في تونس، وظلت بها إلى أن وصلت طرابلس نهاية مارس العام الماضي، لتفكك في حينها قوة الإسلاميين، وتسيطر الحكومة المعترف بها على العاصمة، وبعد أشهر أعلنت حكومة الوفاق عملية البنيان المرصوص في سرت ضد مسلحي داعش، فيما خاض حفتر الذي لم يعترف بتلك الحكومة معارك أخرى ضد مجموعات إسلامية متشددة في بنغازي، لم يدخل الطرفان في معارك طويلة، وتركز القتال بينهما في النصف الثاني من العام الماضي حول موانئ تصدير الخام فيما يعرف بالهلال النفطي في بنغازي؛ لفرض السيطرة عليه، وهو القتال الذي انتهى بتبعية هذه المنشآت جميعها لمؤسسة وطنية واحدة. اجتمع الطرفان في القاهرة في فبراير الماضي، ثم أبو ظبي في مايو الماضي؛ لبحث المصالحة التي لم تتم إلا في باريس، وهو الأمر الذي أثار استياء إيطاليا الدولة المستعمرة لليبيا سابقًا، حيث أغضبت المبادرة الفرنسية حول ليبيا المسؤولين الإيطاليين، إذ يرونها مثالاً آخر لتجاهل الرئيس الفرنسي المنتخب حديثًا إيمانويل ماكرون لإيطاليا. وقال دبلوماسي في وزارة الخارجية الإيطالية – رفض نشر اسمه بسبب حساسية القضية – إن "ماكرون يريد أن يكون له دور أكبر كثيرًا في ليبيا. لا بأس بذلك، لكنه نحانا جانبًا. لم نُستشَر"، وأضاف "ثمة غضب كبير جراء ذلك". واتهم ساسة معارضون حكومة رئيس الوزراء، باولو جنتيلوني، بالسماح لفرنسا بإزاحة إيطاليا من صدارة الجهود المتعلقة بالدبلوماسية الليبية، وقالت جورجيا ميلوني، زعيمة حزب إخوة إيطاليا اليميني على تويتر "الاجتماع الليبي الذي تنظمه فرنسا يظهر الفشل التام للسياسة الخارجية (الإيطالية)"، وأضافت "(هذا) أنهى دور دولتنا التقليدي كوسيط رئيسي في ليبيا". من جانبه قال مكتب ماكرون إن المبادرة لا تعني عدم الاحترام لإيطاليا، وقال قصر الإليزيه "هذه ليست مبادرة تستثني الآخرين"، وسُئل جنتيلوني عن كيفية رؤيته للتحرك الفرنسي فقال "لنرَ.. آمل أن يكون إيجابيًّا". ويرى مراقبون أن الدول المستعمرة سابقًا، سواء كانت فرنسا أو إيطاليا أو بريطانيا، أو المهيمنة حاليًّا كالولايات المتحدة، ما زال يسيل لعابها على النفط الليبي.