اختلف المؤرخون حول اسم والد غيلان الدمشقي، فقيل غيلان بن مسلم أو غيلان بن مروان أو غيلان بن يونس، لكن الثابت أن أباه كان مولى من موالي الخليفة الثالث عثمان بن عفان، من أصول مصرية، أسس فرقة سميت الغيلانية، نادت بأن الإنسان حر مختار في تصرفاته وصانع لأفعاله، ظهر إبان الدولة الأموية التي أقام في عاصمتها، وبدأ نشاطه في مواجهة الدولة الناشئة بفكر "الجبر" الذي كانت تتبناه هذه الدولة في محاولة للتدثر بعباءة الشرعية، خصوصًا بعد أن خالفت القاعدة المعمول بها وهي إجماع الأمة على حاكمها، وأصبح الحكم وراثيًّا في الأمويين، كان أستاذه الحسن بن محمد بن الحنفية يتنبأ بنهايته، فيقول "أترون هذا؟ هو حجة الله على أهل الشام (الأمويين)، ولكن الفتى مقتول". غيلان في مواجهة الدولة الأموية الدكتور محمد عمارة في كتاب "مسلمون ثوار" قال عنه إنه كان من الوعاظ والخطباء والبلغاء، اتخذ موقفًا ثوريًّا من كل السلبيات التي ظهرت في العصر الذي عاش فيه، خصوصًا وأن الأمويين حرصوا على أن تبقى الدولة الناشئة ذات مظهر لائق أمام الناس، حتى وإن احتوت بداخلها عٍلى مضامين مختلفة عن التي جاء بها الإسلام، فكان غيلان يخاطب الناس بضرورة تطابق أقوالهم مع أفعالهم، حتى إنه أطلق على زمانه زمن الهرج، وكان يقول "لا تكن كعلماء زمن الهرج إن وُعظُوا أنفوا، وإن وَعظوا عنفوا". ومن أقواله أيضًا "إن رأيت قلوب العباد في الدنيا تخشع لأيسر من هذا وتقسو عند هذا، فانظر إلى نفسك: أعبد الله أنت أم عدوه؟ فيا رُب متعبد لله بلسانه مُعادٍ له بفعله ذلول في الانسياق إلى عذاب السعير في أمنيته أضغاث أحلام يعبرها بالأماني والظنون". كل هذه الأقوال السابقة كانت ردودًا على "المرجئة"، الذين يقوم فكرهم على الفصل بين الإيمان بالله وسلوك الإنسان المؤمن، وكان الأمويون من داعمي هذا الفكر؛ حتى يبعدوا الناس عن الجدل حول أعمالهم وتصرفاتهم التي لا تتسق في معظمها مع مبادئ الإسلام. الدمشقي والغيلانية يقوم فكر الدمشقي وتياره "الغيلانية" على مبدأ واحد، هو أن الإيمان هو المعرفة الثابتة بالله عز وجل والمحبة له والخضوع والإقرار بما جاء به الرسول من عند الله تعالى، وبناء عليه بدأ وتياره في مواجهة النظام السياسي الأموي الذي حول نظام الحكم من الشورى المرجع فيه للأمة بأسرها إلى حكم وراثي شبه ملكي، ومع ظهور الفكر الجبري انحاز الدمشقي وتياره إلى فكر العدل، ودارت مع غيلان الكثير من المناقشات والجدالات، من أبرزها ما أجراها مع الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز حول "هل فعل الإنسان من خلقه أم من الله؟" حيث قال غيلان للخليفة إن القول بالجبر يفضي إلى نسبة الجور إلى الله؛ لأنه سيحاسب الإنسان وقتها على فعله هو بهم، وسيدفعهم إلى ما نهاهم عنه. الدمشقي ومصادرة أملاك الأمويين بعدما تولى الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الخلافة، سلك طريق إصلاح ما أفسده الأمويون، ففتح باب الحوار مع جميع المختلفين معه، فكتب غيلان له يقول "اعلم يا عمر أنك أدركت الإسلام خلقًا باليًا ورسمًا عافيًا، وربما نجحت الأمة بالإمام، وربما هلكت بالإمام، فانظر أي الإمامين أنت، فإنه تعالى يقول "وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا"، فهذا إمام هدى ومن اتبعه، وأما الآخر فقال تعالى "وجعلناهم أئمة يهدون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون". فرد عليه عمر قائلًا "يا غيلان أعنِّي على ما أنا فيه"، فما كان من الدمشقي إلا أن طلب من الخليفة أن يجعله قائمًا على رد الأموال والمظالم المغتصبة من الأمة. فكان حجم الأموال التي صودرت من الأمويين كبيرًا جدًّا، ورد إلى بيت المال، حتى إن المال المسترد شمل إقطاع "فدك" وحلي زجزاهر زوجة عمر بن عبد العزيز وغيرها من الثروات التي استولى عليها الأمويون، وحاول الأمراء الأمويون إثناء عمر عن فعلته هذه حتى أرسلوا له عمته فاطمة بنت مروان؛ كي تثنيه عما يفعل، ففشلت، فاجتمعوا به، وقالوا له "إنما نخاف عليك العواقب يا أمير المؤمنين، فقال لهم: كل يوم أتقيه وأخافه دون يوم القيامة لا وقيته". قتل الدمشقي بعدما تولى هشام بن عبد الملك الحكم، كان يحمل غيظًا شديدًا لغيلان، خصوصًا وأنه سمعه يومًا ما وهو ينادي على متاعهم المصادر، ويلعن أمراء الأمويين، فأسرها له في نفسه، وقال: والله إن ظفرت به لأقطعن يديه ورجليه"، وحين تولى الحكم، هرب غيلان ورفيق له اسمه صالح، ثم قبض عليهما، ونقلا إلى العصمة في دمش، وسجنا لعدة أيام، ثم أخضر هشام الشيخ الأوزاعي؛ كي يناظره ويصدر فتوى إعدامه، وبالفعل حدث ما أراد له. وعلى "باب كيسان" في مدينة دمشق صلب هشام بن عبد الملك غيلان الدمشقي ورفيقه "صالح"، ثم قطعوا أيديهما وبعدها أرجلهما، وجمع الناس لمشاهدته، فجاء أنصار فكر الجبر ليديروا معه حوارًا فكريًّا، وأرادوا أن يقولوا له إن الله هو الذي خلق فعلهم هذا فيه، فقالوا "كيف صنع بك ربك؟" فقال لهم "لعن الله من فعل بي هذا"، ونسب إليهم هذا الفعل المنكر، واشتد برفيقه العطش، فردوا عليه "لا نسقيكم حتى تشربوا من الزقوم". فالتفت غيلان من فوق صليبه، وقال لرفيقه "يزعم هؤلاء أنهم لن يسقونا حتى نشرب من الزقوم. كذبوا إن الذي نحن فيه لبشير بالجنة وبروح الله الذي سنصير إليه بعد ساعة. فاصبر يا صالح على ما أنت عليه. فصبر حتى فاضت روحه إلى بارئها، فصلى عليه غيلان الجنازة من فوق الصليب، وبعد أن فرغ خاطب الجموع، وقال "قاتلهم الله. كم من حق أماتوه، وكم من باطل أحيوه، وكم من ذليل في دين الله أعزوه، وكم من عزيز في دين الله أماتوه". فأخذ حديثه يؤثر في الناس، فما كان من بعض حاشية هشام إلا أن أبلغوه بما حدث، فأمر بقطع لسانه، حتى فاضت روحه إلى خالقها ضاربًا المثل بإخلاصه لأفكاره ورسالته حتى آخر نفس في حياته.