استمعت بكل حواسي إلى كلمة الصديق الكبير حمدين صباحي المناضل بحق وعن حق، في المؤتمر العام لحزب تيار الكرامة صباح الجمعة الماضية، وسط حضور أكثر من رائع لأجيال متعددة تربت على أفكار ومبادئ جمال عبد الناصر، من أول جيل السبعينيات العظيم، إلى جيل يناير الأنبل في تاريخنا المعاصر. أوشكت على إعلان انضمامي إلى هذا الحزب الجديد، وسط هذا الحماس لفكرة الوحدة بين حزب الكرامة والتيار الشعبي، بين جيلي يوليو ويناير، فهو الأقرب إلى أفكاري، والأقرب إلىَّ انسانياً، ونضالياً، وكدت أبلغ حمدين برغبتي في الانضمام إليهم، ولكن تمهلت في قراري، تخوفاً من ثقل التفاعل اليومي مع العمل الحزبي، وقد غادرته من سنوات ليست قليلة، وفي هذه السن وقد ثقلت حركتي، وإن اعتبرت نفسي عضواً منتسباً إلى هذه الجماعة. ورغم تصفيقي بحرارة مع القاعة لكلمة صباحي إلا أنني تساءلت بيني وبين نفسي عن جدوى دعوة القوى السياسية المحسوبة على ثورة 25 يناير للاتفاق على دعم مرشح لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، وبرنامج رئاسي، وفريق معاون له، بهدف استكمال أهداف ثورتي 25 يناير و30 يونيو. قال حمدين: «الوقت يمر، والانتخابات اقتربت، لهذا نفتح أيدينا لكافة القوى الوطنية للوقوف صفًا واحدًا لخلق بديل وطني يخوض الانتخابات الرئاسية، ترشحت مرتين في 2012 و2014، والآن أدعوكم لاختيار مرشح سأكون جنديًا في حملته». وجاءه رد الفعل الرسمي عبر الأذرع الإعلامية، شتيمة وسباً وقذفاً من كل جانب، ليس لعزمه على الترشح، بل هو أكد على الوقوف جندياً في معركة المرشح البديل لكل ما هو قائم، قبل الهنا بسنة انهالت عليه أبواق النظام، لمجرد حديثه عن الانتخابات الرئاسية المقبلة، كأنه لمس سلك كهرباء عارياً، أو كأنه عرَّى نواياهم المبيتة على انتخابات شكلية ليس فيها من شرط واحد من شروط انتاج عملية انتخابية حقيقية. ومن هنا سؤالي إلى صديقي الكبير: هل تعتقد أن هناك انتخابات حقيقية في العام المقبل؟ تعرف عن يقين أننا أمام سلطة تسلطت على كل شيء في البلد، وأغلقت المجال العام بالضبة والمفتاح، ضبة القوانين، وفي يدها مجلس يشرع لها ما تريد، ومفاتيح الإعلام التي صارت في قبضتها. وتعرف بدون شك أن الانتخابات قبل أي إجراءات، هي بالأساس مناخ، والمناخ القائم مانع لإقامة انتخابات على الحقيقة، ويؤدي بالضرورة إلى استفتاء يشبه كل الاستفتاءات الرئاسية السابقة في كل شيء، ويختلف معها في شيء واحد هو أنه يجري في صورة انتخابات تعددية بين أكثر من مرشح. أعرف أن الأمر لا يخفى على الداعين إلى فكرة طرح بديل مدني يحظى بأكبر توافق مجتمعي عليه، وأعرف أنهم يعولون على الغضب الشعب العارم من السياسات القائمة، سواء سياسات التجويع أم سياسات التفريط، ولكني لست أرى أن هذا الغضب وحده كافٍ لإنتاج انتخابات رئاسية حقيقية تتوفر لها أدنى الشروط والمواصفات التي تجعلها معبرةً عن هذا الغضب في صناديق الاقتراع. قبل التوافق على مرشح رئاسي نرمي به في أتون عملية لا قواعد تحكمها ولا شروط تقومها، أرى ضرورة للتوافق على برنامج سياسي مرحلي قاعدته خلق مناخ يسمح بانتخابات حقيقية وهدفه إزالة كل المعوقات القانونية والإجراءات العملية التي تخنق أي إمكانية لمنافسة جادة. البحث عن بديل قادر على منافسة الرئيس السيسي، أسهل ألف مرة من النضالات المطلوبة من أجل توفير ظروف مناسبة للمنافسة، الأولى لا تغني عن الثانية، والثانية تُغني العملية برمتها وتجعلها متاحة أمام الجميع سواء بتوافق أو من غيره. صحيح أن التوافق على مرشح مدني واحد أفضل ألف مرة من بعثرة الجهود وتفتيت الأصوات، وإتاحة الفرصة أمام أي عملية تزوير محتملة، ولكن من دون الإصرار على شروط منافسة جادة، ستكون النتيجة واحدة. الرئيس السيسي الذي أقسم ثلاثاُ أنه لن يبق ولو لثانية "لو رفضني المصريون"، مطالب قبل هذا القسم وبعده، بأن يتيح الفرص المتكافئة لمنافسة شريفة ونزيهة وجادة، وهو يعلم قبل غيره أن الأوضاع الراهنة لا تشجع على انتخابات رئاسية تنافسية، في ظل إعلام جرت عملية السيطرة عليه، وتمت عملية إقصاء متعمدة وممنهجة لكل الأصوات المخالفة، وسيادة منطق الصوت الواحد، وزرع الخوف من أي نقد لأي ممن يسمونهم رموز الدولة وهيئاتها ومؤسساتها. نحن أمام مجتمع مدني محاصر، ومطارد، ومضيق فيه على كل تحرك احتجاجي سلمي، منعت التجمعات والاجتماعات العامة، وحوصرت الأحزاب في مقراتها، ولدينا سلطة تشريعية لا تنتج غير قوانين مقيدة للحريات العامة، خاصة حريات التعبير، وكلها أمور يكفي واحد منها لكي تجعل أي انتخابات رئاسية أو غير رئاسية بعيدة كل البعد عن التنافسية الحقيقية. إن عملية وأد المناخ العام النشط سياسياً بعد يناير سنة 2011 لم تكن مقصودة لذاتها، قدر ما كانت متعمدة لمثل هذا الموقف، أن نكون دائماً أمام مرشح الضرورة، كما أن حزمة التشريعات التي صدرت خلال السنوات الأربع الماضية لم تكن إلا تمهيداً لتلك اللحظة، حيث تنعدم كل الشروط الموضوعية لمنافسة حقيقية على الرئاسة، وجعلها منافسة صورية معروفة النتائج قبل أن تبدأ إجراءاتها. غضب الناس لا يحتاج إلى تأكيد، ومعاناتهم يعترف بها الرئيس السيسي نفسه، ووعوده بالرخاء تبخرت في الهواء، وتعهداته بالقضاء على الإرهاب لم تؤت حتى اليوم ثمارها المرجوة، والمجتمع أكثر انقساماً، والإصلاح الاقتصادي على طريقة صندوق النقد الدولي يمضي في اتجاه واحد، يحقق مصلحة الأثرياء، ويأتي على حساب الفقراء، والشعبية التي كانت بين يديه رصيداً ليس لأحدٍ سواه، صارت اليوم في حدودها الدنيا. هذا كله صحيح وأكثر منه، ولكن الغضب وحده لا يصنع التغيير، والفقر لا ينتج ثورة، والخوف من البدائل يتحكم في مشاعر الناس ويحكم قرارهم. غلق المجال العام، وتقييد العمل السياسي، وتجريم التجمعات، وحظر نشاط جماعات ومنظمات المجتمع المدني، والإطاحة بحريات التعبير والتظاهر، وتزايد وتيرة الاعتقالات وتصاعد ظاهرة الاختفاء القسري، كلها تقف حائلاً دون إنتاج شروط العملية الانتخابية ولو في حدودها الدنيا. التكتيك السياسي الأفضل الآن هو أن تجتمع إرادة كل القوى المدنية المحسوبة على ثورة يناير على طرح كراسة الشروط الموضوعية والدستورية والقانونية لنجاح الانتخابات الرئاسية المقبلة، قبل أن تجتمع إرادتها على مرشح واحد يمثلها في تلك الانتخابات، بل قد يكون من المفيد في هذه اللحظة أن تنعقد إرادة جميع المرشحين المحتملين ووراءهم القوى السياسية التي يمثلونها على انتزاع تلك الشروط وجعلها حقيقة قائمة على الأرض قبل الدخول في عملية التوافق على مرشح واحد من بينهم. حتى لا تكون الانتخابات القادمة سابقة التجهيز، فلابد من الإجهاز أولاً على كل القيود التي تعيق المنافسة الحقيقية، ومن دون ذلك سنجد أنفسنا مجدداً في نفس الدائرة، ندور ونلف، ولا نتقدم خطوة واحدة إلى المستقبل.