ملامح غامضة للسياسة الكوبية تشكلت هذا العام، فمن نظام اشتراكي بحت إلى نظام يسعى للتقارب مع الدول الليبرالية، خاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يشير إلى أن الرأس السياسي لكوبا حاليًا راؤول كاسترو قد يمتلك أجندة سياسية تختلف إلى حد كبير مع أخيه الأكبر الزعيم الراحل فيديل كاسترو. كوبا والاتحاد الأوروبي وقَّع الاتحاد الأوروبي وكوبا، الاثنين الماضي، في بروكسل اتفاق «حوار سياسي وتعاون»، هو الأول من نوعه ويهدف إلى تطبيع العلاقات بينهما، ووقَّع الاتفاق وزير الخارجية الكوبي برونو رودريغيز باريا، ووزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، على هامش اجتماع وزراء خارجية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. ويأتي هذا الاتفاق ليتوج سنوات من المفاوضات الصعبة بين الجانبين، وذلك بعد مرور أسبوعين على رحيل الزعيم الكوبي فيديل كاسترو. وتعد كوبا الدولة الوحيدة في أمريكا اللاتينية التي لم توقع على مثل هذا الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي، والذي يشمل قضايا مثل التجارة وحقوق الإنسان والهجرة. ويأتي تطبيع العلاقات هذا في إطار التقارب مع هافانا الذي أطلقه الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وإعادة فتح سفارة البلدين في يوليو 2015 لينهي بذلك ستين عامًا من العداء بين البلدين، وقام بعد ذلك بزيارة تاريخية إلى كوبا في مارس 2016. وكان وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي قد اتفقوا الأسبوع الماضي على التخلي عن السياسة التي وضعت عام 1996 والتي تحتوي على شروط تتعلق بحقوق الأنسان في كوبا، كما اتفقوا على توقيع اتفاق التطبيع معها. كوبا والتطبيع مع الولاياتالمتحدة الحكومة الكوبية متخبطة بين النظام الاشتراكي والرأسمالي، أو أنها خجلة من إعلان تبنيها للنظام الرأسمالي، وهي الدولة المعروفة بهويتها الاشتراكية المتجذرة، من خلال مواقف زعيم الاشتراكية في كوبا فيديل كاسترو. فمن ناحية قال وزير خارجية كوبا: الروابط الاقتصادية مع أوروبا ستبقى أولوية بالنسبة لكوبا، في الوقت الذي نبني فيه اقتصادًا اشتراكيًّا"، ومن ناحية أخرى استذكر خطابًا للزعيم الراحل فيديل كاسترو عام 2003 أشاد فيه «أب الثورة الكوبية» بوجود الاتحاد الأوروبي واليورو، باعتبارهما «ثقلًا موازنًا» ل«الهيمنة المطلقة» للولايات المتحدة والدولار. وخلط وزير الخارجية الكوبي الحابل بالنابل، فصحيح أن الزعيم الراحل كاسترو أشاد بالاتحاد الأوروبي، لكن الإشادة هنا مبنية على أن الاتحاد الأوروبي قد يشكل قوة تكسر هيمنة واشنطن على الاقتصادي العالمي، لكن بعد تطبيع كوبا علاقاتها مع واشنطن، لم يعد هم كوبا كسر الهيمنة الأمريكية على العالم، كما أن توجه كوبا باتجاه واشنطن وبروكسيل الرأسماليتين يعني أن كوبا باتت مؤهلة أكثر من أي وقت مضى للانتقال التدريجي للمعسكر الرأسمالي، وعلى أقل احتمال تقبله عبر التعاون التجاري مع الأطراف الرأسمالية. وكانت الإدارة الأمريكية قد اتخذت قرار تطبيع العلاقات وتحسينها مع كوبا، في ديسمبر من عام 2014، وبدأت إثر ذلك تخفيف العقوبات المفروضة على هافانا، وفي هذا الإطار رفعت الولاياتالمتحدة اسم كوبا من لائحة الدول الداعمة للإرهاب، وتخفيف العقوبات المفروضة عليها في مجالات الملاحة الجوية المدنية والبحرية والبنوك والتجارة. وأعادت الدولتان العلاقات الدبلوماسية بينهما العام الماضي، بعد أن تعرضت تلك العلاقات للقطيعة، إثر الثورة الكوبية عام 1959، وتمّ فتح السفارات بشكل متبادل. لكن لا يبدو الطريق ممهدًا بالشكل الكافي أمام كاسترو الصغير بالاتجاه نحو الولاياتالمتحدة، فمن الصعب جدًّا فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين بسرعة لعدة اعتبارات، منها أن الطبقة السياسية الأمريكية برمتها تمكنت من غرس فكرة في أذهان الأمريكيين لعشرات السنين، مفادها أن كوبا بلد يناصب الولاياتالمتحدة العداء ويشكل خطرًا على أمنها القومي وعلى المبادئ التي يؤمن بها المواطن الأمريكي، وذلك منذ وصول فيديل كاسترو، شقيق الرئيس راؤول كاسترو، إلى السلطة عام 1959. وفي المقابل الكوبيون تربوا منذ قرابة ستة عقود على فكرة غرسها فيهم فيديل كاسترو، مفادها أن رؤساء الولاياتالمتحدة منذ ستينيات القرن الماضي «إمبرياليون» وأن رغبتهم الوحيدة، تتمثل في محاولة إعادة استخدام جزيرة كوبا القريبة جدًّا من الحدود الأمريكية كمحطة سياحية لأثرياء الأمريكيين أيًّا تكن الأنشطة التي يتعاطونها، بمن فيهم أولئك الذين أقاموا ثرواتهم عبر الاتجار بالمخدرات، أضف إلى ذلك أن محاولات الرئيس راؤول كاسترو الساعية منذ وصوله إلى السلطة عام 2008 إلى فتح كوبا على العالم الغربي ولاسيما على الولاياتالمتحدة، وهي ليست بالعملية السهلة؛ لأن عددًا من رفاقه العسكريين الذين يسيطرون اليوم على الاقتصاد الكوبي عبر القطاع العام غير مطمئنين كثيرًا لبعض الإجراءات التي اتخذها منذ أن تولى مقاليد الحكم، ومنها اقتطاع حيز لا يزال صغيرًا للقطاع الخاص لمواكبة التغيير التدريجي الذي يرغب في إرسائه في كوبا، والسعي لتصالحها مع الولاياتالمتحدة بعد قطيعة استمرت أكثر من نصف قرن. ويرى مراقبون أن تحركات الرئيس الكوبي تجاه واشنطن وبروكسيل تمت في توقيت غير مناسب، فالولاياتالمتحدة ظهرت لها منافسة اقتصادية قوية على الساحة العالمية من قِبَل الصين الاشتراكية، وبهذه الحال قد تتهدد علاقة كوبابالصين التي أكدت في شهر مارس الماضي، أنها لن تسمح لأي شيء بالتأثير على العلاقات القوية التي تربط بينها وبين كوبا، وذلك في رد فعل لها على الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس أوباما لهافانا، وبالتالي الخطوات الكوبية السريعة تجاه واشنطن قد تفصلها عن التنين الصيني الذي بات يمتلك حصصًا اقتصادية أكبر في المستقبل القريب، كما أن تقارب كوبا مع النادي الأوروبي جاء في الوقت الذي أصبح فيه الاتحاد الأوروبي مهددًا بالانهيار في أي لحظة إذا توالت الانسحابات الأوروبية منه على غرار انسحاب بريطانيا.