لاشك أن شرف العبودية لله تعالي تصل بالعبد إلي مكانة عالية فلا ترتفع درجته عند الله تعالي إلا إذا حقق العبودية فعلا لا قولا، وهذا ما حدث ننبينا وحبينا محمد صلي الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج والتي تعجز العقول البشرية عن حصر أسرارها والإحاطة بكافة معانيها ودروسها وحول هذا الأمر يحدثنا فضيلة الأستاذ الدكتور حمدي أحمد سعد وكيل كلية الشريعة والقانون للدراسات العليا والبحوث بطنطا. يقول فضيلته:وإن من أسرار ودروس الرحلة المباركة للنبي صلي الله عليه وسلم "الإسراء والمعراج" هي أن شرف العبودية لله تعالي فلا يصل عبد إلي مكانة عالية ولا ترتفع درجته عند الله تعالي إلا إذا حقق العبودية فعلا لا قولا وهذا ما حدث ننبينا وحبينا محمد صلي الله عليه وسلم حيث أظهر عبوديته لله تعالي وحده بعد وفاة زوجته خديجة رضي الله عنها ووفاة عمه أبو طالب وهما من كانا يقفان معه ويساندانه. لذا سمي هذا العام بعام الحزن، بل إن النبي صلي الله عليه وسلم وجد من قومه ما وجد من معاندة وحرب وتكذيب، ولقي من أهل الطائف السخرية والاستهزاء والإيذاء بعد أن سلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم وعرض عليه إهلاكهم إلا أنه صلي الله عليه وسلم قابل كل ذلك بقلب رحيم وعفو مطلق راجيا من المولي عز وجل أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله فعن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلي الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ أَتَي عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَي ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَي مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَي وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) رواه مسلم. ثم توجه بدعاء خالص لله تعالي هذا الدعاء الذي ترتجف له القلوب وترتعد له الفرائص بعد أن قلت حيلته متوجها إلي الله تعالي مبتهلا ومتضرعا قائلا: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلةَ حيلتي، وهواني علي الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين. وأنت ربي. إلي من تكلني؟ إلي بعيد يتجهمني؟ أم إلي عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضبٌ فلا أبالي.. غير أن عافيتك هي أوسعُ لي... أعوذ بنور وجهك الذي أشرقتْ له الظلمات، وصلحَ عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحلّ عليّ غضبك، أو أن ينزل بي سخطك.. لك العتبي حتي ترضي... ولا حول ولا قوة إلا بك" هذا التضرع إلي الله تعالي أظهر العبودية الخالصة لله تعالي ومن ثم جاءت رحلة الإسراء والمعراج تكريما للنبي صلي الله عليه وتخفيفا عما لاقاه من أذي وسخرية فقال سبحانه " { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَي بِعَبْدِهِ ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأثصي " }( الإسراء: 1) فجاء القرآن بكلمة عبد وهي الكلمة التي وصف بها النبي صلي الله عليه وسلم في مواطن التشريف والتكريم في القرآن بصفة عامة منها: قوله تعالي: { فَأَوْحَي إِلَي عَبْدِهِ مَا أَوْحَي }. (النجم: 10). كما وصفه الله تعالي بالعبودية في إنزال الكتاب عليه فقال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَي عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا}.( الكهف: 1 )، وقال: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَي عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا }. ( الفرقان: 1 ). وقال: { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَي عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ }. ( الحديد: 9 ). فالله تعالي لم يقل أسري برسوله أو نبيه أو حبيبه أو خليله وإنما اختار كلمة عبد ليدخل في عباد الله تعالي الذين يأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه والذين يصدق فيهم قول الله تعالي، : {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَي الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا }(الفرقان: 63). واختيار كلمة عبد في هذا الموقف للدلالة علي أمرين الأول: أن الإسراء وقع بالروح والجسد ولم يكن منامًا، والثاني: أن العبودية لله عز وجل هي أسمي المراتب التي يصل إليها الإنسان، وبها يحصل العبد علي رضوان الله تعالي وفضله واصطفائه وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالي: { فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}( الكهف: 65). وهذا ما حدث مع نبينا محمد صلي الله عليه فلما تحققت العبودية لله تعالي في أكمل صورها من النبي صلي الله عليه وسلم فأصبح عبدا خالصا لله تعالي في فكره وعقله وقلبه وكلامه، رفعه الله تعالي إلي أعلي المكانات وأشرف المقامات التي لم يصل إليها أحد من العالمين والتي منها: 1- إمامته صلي الله عليه وسلم للأنبياء والمرسلين والصلاة بهم في المسجد الأقصي وهذا دلالة وضاحة علي العهد والميثاق الذي أخذه الله تعالي علي كل الأنبياء والمرسلين لئن بعث محمد وأنتم أحياء لتؤمنن به ولتنصرنه، قال تعالي: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، فَمَنْ تَوَلَّي بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، (آل عمران: 81، 82)، 2- العروج به صلي الله عليه وسلم من بيت المقدس إلي السماوات السبع، وفي كل سماء يلقاه أحد الأنبياء عليهم السلام، فيسلم عليه، فيرد عليه السلام، ويرحب به. 3- رفعه صلي الله عليه وسلم إلي سدرة المنتهي، ثم إلي البيت المعمور بصحبة جبريل عليه السلام، وإتيانه بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فيختار اللبن، فقال له جبريل عليه السلام: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك. 4- فرضت عليه في تلك الليلة الصلاة خمسين صلاة، فراجع ربه عز وجل إلي أن خففها إلي خمس صلوات وتفضل الله تعالي علي الأمة الإسلامية بأن جعلها خمس في العدد خمسين في الأجر. 5- اطلاع النبي صلي الله عليه وسلم علي مظاهر قدرة الله عز وجل ليتأمل آثار رحمته سبحانه وتعالي ليمتلئ قلبه ثقة واطمئنانا. 6- معاينة الغيب الذي يبلغه للناس كرؤية الجنة والنار وما فيهما من نماذج للنعيم والعذاب. وختاما أسأل الله تعالي أن يجعلنا من عباده المخلصين وأن يحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين من كل سوء وكل عام وانتم بخير.