وللدكتور محمد المخزنجي - الطبيب والكاتب المبدع - كتاب بعنوان "جنوبًا وشرقًا" يؤرِّخُ فيه لزياراته العلمية إلي دول العالم الجنوبية والشرقية، بعكس ما اعتاد الناس التوجه دائما نحو الشمال والغرب - حيث البلاد المتقدمة في أوروبا وأمريكا - تَوجَّه هو نحو البلاد المنسية جنوبًا، والبلاد الصاعدة شرقًا.. .كان يبحثُ عن البيئات البكر، والعادات الأكثر غرابة.. .وعلي هذا فقد زار الإمارات العربية المتحدة مرتين في ثلاث سنوات، وخصص لذلك فصلين من كتابه. [محمد المخزنجي] والإمارات تقع في صحراء الرَّبع الخالي، أو الرَّبع الخراب كما يقال. حيث أشد البيئات قسوةً علي وجه الأرض. فالحرارة تتجاوز الخمسين في العديد من الشهور، والتصحر يسيطر علي كل شيء، فلا شجرَ ولا مطرَ ولا حيوان ولا طير، فقط كثبانٌ رمليةٌ متتابعة. حتي مياه الخليج أشبه بالمياه الميتة، فحرارتها تتجاوز أحيانا 45 درجة، وملوحتها 100 وحدة في الألف، بينما باقي بحار العالم لا تتجاوز درجة ملوحتها 35 درجة في الألف، ولا يعني ذلك إلا صعوبة الحياة إلي حد الاستحالة. ولكن الطيار حين يدخل بطائرته المجال الجوي للإمارات وخصوصا "أبو ظبي" التي تحتل 86 في المائة من مساحة الإمارات، يُدهَش من حجم الخضرة، إذ تتحول الصحراء إلي مجال أخضر، كأنما انتُزِع من قبضة الصحراء انتزاعًا. فقد استقدم الشيخ المؤسس - الشيخ زايد - الأشجارَ من كل أنحاء العالم، أشجارَ المانجو والجوافة والخوخ والمشمش وسائر أنواع الفاكهة، ووفَّرَ لها المناخ المناسب والريَّ المنضبط، كما استقدم أشجارَ الزينةِ دائمة الخضرة، والورود المتنوعة من كل مكان. فقد وصل نصيب الفرد من الحدائق العامة 8 أمتار مربعة، علاوة علي أن لكل فرد علي أرض الإمارات 10 نخلات و55 شجرة مختلفة، والعدد في تزايد مستمر. كل هذا وأكثر يحدث في بلد يعتصر الماءَ من أعسر مصادره، فتقوم الزراعة فيه علي تحلية مياه البحر ومعالجة مياه الصرف، وتخزين أي قطرة ماء تهبط علي الأرض.. .أما مخزونهم الجوفي فيحافظون عليه إلي أقصي حد.إنها رؤية وإرادة صاحب القدم الخضراء. [جانب من جزيرة صير بني ياس] رأي الشيخ زايد جزيرة مهجورةً من الجزر الإماراتية فأمر ألا تُمَسَّ، بل تُحَوَّل إلي محمية صناعية.. .نعم محمية صناعية، فحين تمتلك بعض الدول محميات طبيعية وتتركها همَلًا حتي تُستنزَف وتندثر، أنشأ الشيخ زايد محمية صناعية علي جزيرة "صير بني ياس". ومن حيث الاسم فكلمة صِير تعني أصل، وبني ياس قبيلة عربية كانت تسكن الجزيرة. ومن حيث التاريخ فقد استخدمها المحتل الانجليزي ميدانا للرماية، حتي هجرها كلُّ حي، وجفَّ فيها كلُّ رطب من أثر الانفجارات والحرائق. وأما حاضرها، فقد تحوَّل بعناية الشيخ زايد ورقته، إلي غابة فريدة، استقدم لها أندر الأشجار من كل أنحاء العالم، وجلب إليها الحيوانات والطيور المختلفة موفِّرًا لها بيئة مناسبة.. .فغدت الجزيرة ملاذًا فريدًا للحيوان والطير وواحة للزهور والفواكه والأشجار السامقة. وتوفير البيئة المناسبة لكل حيوان ليس أمرًا هينا في تلك البيئة القاسية، فالجمل الأمريكي مثلًا لم يستسغ الحرارة المرتفعة، فصنع له الشيخ زايد أحواضًا مُبَطَّنة مملؤة بالماء وجعل له مظلات معدنية بحيث يرطب جسده بالماء ويحتمي بالمظلات من الحرارة القاسية، فجاءت الأجيال الثانية والثالثة - الأبناء والأحفاد - متكيفةً مع البيئة التي نشأت فيها.. .حتي الطيور المهاجرة بطبعها استقرت حين وجدت الأمان والبيئة المثالية، فطائر الفلامنجو مثلا اتخذ من أشجار بني ياس مستقرًّا له وتخلي عن نزعته إلي الهجرة. والصيد ليس ممنوعا في الجزير فحسب بل في الإمارات كلها، مما أدي بالظباء والغزلان العربية إلي التزايد بأعداد غفيرة بعد أن كانت علي وشك الانقراض. [تنامي الحيوانات في الجزيرة ] إن المآثر البيئية في الإمارات عصيةٌ علي الحصر، والأرقام غير قابلة للمنافسة، مما يجعلنا نؤجل بعضها من أجل الحديث عن مأثرة جديدة.. .فحين بدأت "ناسا" استكشاف المريخ منذ عدة سنوات اهتم الجميع بالبحث عن إمكانية وجود حياة علي سطحه، فشغل الجميع بجمع عينات التربة، والبحث عن المياه، وقد كان للعلماء طلبٌ مُلِحٌّ، وهو استكشاف الغلاف الجوي للمريخ، لاعتقادهم وجود أكسجين في الطبقات العليا منه بعد أن انتهي من الطبقات الملاصقة لسطح المريخ، وهذا أمل مهم لإمكانية الحياة هناك، إلا أن تمويل تلك المشروعات لا يأتي بعائد فوري، مما جعل الدول تحجم عن مثل ذلك التمويل. وهنا تحرّك الأبناء علي خُطي أبيهم، واتسعت إرادتهم ليساهموا في كل ما يفيد الحياة والعلم، فأطلقوا مسبار الأمل الإماراتي للبحث عن الأكسجين في الغلاف الجوي للمريخ.. . وأستعير من المخزنجي قوله: إن المأثرة الإماراتية لم تعد تجربة، بل صارت واقعا عالميا تنهال عليه اعترافات العالم وتقديره. كتبه للأسبوع/ مهندس طيران إبراهيم فودة