لم يكن أحد فى قرية موشا إحدى قرى محافظة أسيوط يتخيل شيئًا مما جرى.. بعد أن رزق «قطب إبراهيم حسين الشاذلى» بمولوده الأول من زواجه الثانى فى التاسع من شهر أكتوبر عام 1906، قبل ثلاثة عشر عامًا من اشتعال ثورة 1919.. كان الرجل قد أطلق على ابنه اسم «سيد» الذى كان الابن الأول لأمه بعد أخت تكبره بثلاثة أعوام.. وأخ من أبيه غير شقيق يكبره بجيل كامل.. والذي عرف فيما بعد باسم «سيد قطب» الذي دار به الزمن دورات.. تتابعت وتلاحقت.. وخلطت بين الواقع والخيال.. الحقيقة والوهم.. وصنعت منه «اسما» تحدى الظروف.. وناطح الواقع.. وشغل الدنيا.. وقبل أن نبحر فى عالمه.. ونخوض فى مفارقاته وتقلباته.. وما جرى منه، وما جرى له.. نتوقف قليلا عند البداية.. فى قرية «موشا» التى تلقى دراسته الابتدائية فى مدرستها.. وبدأ يحفظ القرآن فى السنة الثانية وعمره حوالى ثمانى سنوات.. وبعد ثلاث سنوات كان قد أتم حفظ القرآن كاملًا.. ثم اضطربت الظروف المالية للأسرة.. فسافر إلى القاهرة لدي أقارب لوالدته، والتحق بمدرسة المعلمين الأولية، ونال شهادة الكفاءة للتعليم الأولى عام 1920.. وأصبح مدرسًا إلزاميًا يدبر حياته براتب الوظيفة المتواضعة، ويعد نفسه لدراسة أعلي.. حيث التحق بتجهيزية كلية دار العلوم.. وحصل فيها على شهادة البكالوريوس فى الآداب عام 1933، ليلتحق بعدها بوزارة المعارف «التربية والتعليم حاليًا» ويتدرج فى وظائفها.. مدرسًا.. ثم مفتشًا بالتعليم الابتدائى.. ثم مراقبًا مساعدًا بالمكتب الفنى لوزير المعارف. ويبدو أن سيد قطب لم يكن راضيًا، ولا قانعًا بوضعه ودرجته فى وزارة المعارف.. كان يرى نفسه أكثر ذكاء وأكثر علمًا من كل زملائه.. بل رؤسائه.. وكان يرى نفسه أكبر من كل الوظائف، وأعلى من كل الدرجات.. وقد لازمه ذلك الإحساس طوال حياته.. حتى إنه أفسدها تقريبًا.. وعاش ممزقًا بين مفارقات وتناقضات لا حصر لها.. كان يحمل قلب فنان، وإحساس عاشق.. ويرى عظمة الخالق فى الجمال.. وعاش أعزبًا.. رغم أنه تقدم لخطبة أكثر من فتاة.. ولم يوفق لسبب أو لآخر.. ثم كان ضعيف البنية، عليل.. وعندما لقيه الشيخ على طنطاوى تعجب من شكله.. لم يتصور أن المقالات العنيفة تصدر من ذلك الشخص ضعيف البنية الذى تبدو عليه مظاهر المسالمة والموادعة.. يكتب أصدقاؤه وتلاميذه أنه كان ضعيف البنية، قوى القلب، حاد اللسان، مرهف الإحساس، شبيهًا فى ذلك بابن حزم.. كان سيد قطب المدرس والموظف فى وزارة المعارف قد بدأ يكتب المقالات فى الصحف والمجلات، ثم بدأ يجمع مقالاته فى كتب لاقت استحسانًا بين القراء.. وكان يرى فى العقاد مثله الأعلى.. وقد منحه ذلك صيتًا وسمعة وشهرة، خاصة أنه كان يكتب فى أكثر القضايا حساسية.. وبجرأة نادرة.. حتى إنه طعن فى بعض الصحابة فى كتابه «كتب وشخصيات» عام 1946 -وقد ورثت نسخة من طبعته الأولى- حيث طعن سيد فى الصحابيين: معاوية بن أبى سفيان وعمرو بن العاص واتهمهما ب«النفاق والرشوة والخيانة والكذب والخديعة» وطعن فى خلافة عثمان بن عفان، واعتبر خلافة على بن أبى طالب امتدادًا طبيعيًا لخلافة عمر بن الخطاب وأن خلافة عثمان هى فجوة بينهما. وفى أول كتبه «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» كتب الإهداء إلى «الفتية الذين ألمحهم فى خيالى قادمين يردون هذا الدين جديدًا كما بدأ.. يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويُقتلون» فاعتبره الإخوان موجهًا إليهم.. ومن ثم بدأ الغزل واعتبروه صديقًا لهم.. ولعلها أول إشارة إلى علاقته بهم مع أنه كان عضوًا فى حزب الأغلبية.. ويتجرأ على الدين ورموزه. وكانت المفارقة الحادة فى حياة سيد قطب قيام وزارة المعارف بترشيحه لبعثة لدراسة أساليب التربية وأصول المناهج فى الولاياتالمتحدةالأمريكية التى وصلها أول نوفمبر 1948 وعاد بعد عامين «1950».. كان يتابع أخبار مصر من أمريكا.. وكانت أخبارها ساخنة.. فبعد سفره بشهرين كان اغتيال النقراشى باشا رئيس وزراء مصر على يد شاب من الإخوان.. وثأر الملك والحكومة للنقراشى باغتيال حسن البنا مرشد الإخوان بعد 46 يومًا من مصرع النقراشي.. وفُتحت سجون إبراهيم عبدالهادى للآلاف من المنتمين للإخوان. وحتى الآن، ورغم جهود الباحثين ومحاولاتهم فلم يتمكن أحد من معرفة ما جرى لسيد قطب فى أمريكا.. فقد عاد منها شخصًا آخر بدأ.. ينشر مقالات عن «أمريكا التى رأيت» واصفا شعبها بأنه «شعب يبلغ فى عالم العلم والعمل قمة النمو والارتقاء.. بينما هو فى عالم الشعور والسلوك بدائى لم يفارق مدارج البشرية الأولى.. بل أقل من بدائى فى بعض نواحى الشعور والسلوك». وقد أُلحق سيد قطب بعد عودته من أمريكا بمكتب وزير المعارف.. وكانت ذاته قد تضخمت أكثر، وتأففه من زملائه ومن طبيعة العمل قد ملكت عليه نفسه.. فكثرت مشكلاته.. وقامت الوزارة بنقله عدة مرات بين إدارات الوزارة حتى ضاق بهم وضاقوا به وكانت قناعاته السياسية وانتماءاته الحزبية قد تغيرت فقدم استقالته من وزارة المعارف فى أغسطس عام 1952 عقب اندلاع ثورة يوليو بقيادة جمال عبدالناصر.. وبدأت مرحلة جديدة ومثيرة من حياته ربما تقودنا إلى فهم الكثير مما جرى بعد ذلك متعلقًا بحركة الأحداث ودور الإخوان المحورى فى كل ما جرى على مدى 85 عامًا منذ النشأة عام 1928 حتى أيامنا هذه التى تعانى الأرق من جراء تحركات الإخوان وفهمهم للإسلام والسياسة وقضايا المجتمع ومتطلباته.