من كافة التنظيمات التى شكلها الإخوان منذ نشأتهم.. كان الجهاز السرى المحصلة النهائية التى استخلصها الشيخ حسن البنا كثمرة لكل تلك التنظيمات. وخلال أعوام قليلة أصبح ذلك الجهاز رعبا متصلا بالنسبة لخصوم الإخوان ومنافسيهم.. خاصة وقد تشكل داخل الجهاز السرى.. جهاز مخابرات على جانب كبير من المهارة ليمد القيادة بمعلومات وافية عن خصومها وأصدقائها، وشمل نشاط استخبارات الإخوان جميع الأحزاب المصرية فضلا عن النقابات والجمعيات والوزارات والجامعات والمدارس والأزهر.. وأقسام البوليس والمحال والمصانع اليهودية والأجنبية والمصرية.. وكافة السفارات، وكافة الشخصيات العامة.. كما يقول أحمد عادل كمال أحد قادة الجهاز السرى.. وجهاز المخابرات أيضا.. وعندما ضبطت سيارة الجيب الشهيرة فى 1948/11/15 وكشفت المستندات التى كانت تحملها حقيقة الجهاز السرى وتم القبض على 32 من قادته بينهم رئيسه عبدالرحمن السندى.. ومعهم خطط ونوايا الإخوان.. ومخازن الأسلحة.. وتقارير المخابرات الإخوانية التى وصفها عصام الدين حسونة وكيل النائب العام وقتها وكان يشارك فى التحقيقات أنها كانت دقيقة عن محلات اليهود، والسفارات.. كانت التقارير تصف نوع وعيار السلاح الذى يستخدمه حراس السفارات الظاهرون منهم والمتخفون، ومكان الكابل الرئيسى لتليفونات السفارة والكابل الرئيسى المغذى بالكهرباء لإمكان حرمانها من التليفونات والكهرباء.. كذلك التسلل إلى قصور وبيوت كبار الشخصيات ووصف المنازل حجرة حجرة وتتبع الشخصيات إلى أماكن لهوها السرية. وكانت شروط اختيار أفراد جهاز المخابرات تتحدد فى الصحة الجيدة والمهارة والتنظيم الذاتى والمكر والقدرة على «التذؤب مع الذئاب» كما جاء فى وثائق الجهاز السرى.. وقد حددت التعليمات طرق إعداد رجال المخابرات رياضيا وفنيا وتدريبهم على الكهرباء واللاسلكى والتصوير والاختزال والتمثيل وعمل المكياج وتغيير الزى والهيئة.. وقيادة وسائل المواصلات والأعمال الفدائية وحرب العصابات وصناعة قنابل مولوتوف وكيفية تخريب المواصلات والسكك الحديدية واستخدام المفرقعات والالغام والأسلحة النارية بأنواعها.. وتم تجهيز ذلك الجيش السرى بالرءوس المفكرة والعقول المدبرة والمال الوفير والأسلحة بأنواعها ووسائل النقل والتراسل والاذاعة والأوكار المختلفة فى المدن والريف.. كما ذكر عبدالمجيد حسن قاتل النقراشى فى التحقيقات.. كانت لدينا بيانات كاملة عن منشآت الجيش المصرى والمنشآت الأجنبية من سفارات وقنصليات.. فضلا عن كافة المنشآت المصرية الرسمية من وزارات ومديريات وسجون وطرق وكافة الخدمات. وإلى جانب حوادث العنف التى أودت بحياة المنافسين فى الأحزاب المختلفة والأبرياء الذين تصادف وجودهم فى الأماكن التى قام الجهاز السرى بنسفها وشملت حارة اليهود والشركات والمؤسسات اليهودية والأجنبية والعديد من الأماكن الحيوية فقد تم اغتيال أحمد ماهر عام 1945، وأمين عثمان 1946 والمستشار أحمد بك الخازندار 1948 واللواء سليم زكى حكمدار العاصمة فى نفس العام، وتم ضبط سيارة الجيب واكتشاف كافة أسرار الإخوان وجهازها السرى فى نفس العام 1948 الذى شهد قرار حل الإخوان فى 8 ديسمبر واغتيال النقراشى باشا رئيس الوزراء بعد 20 يوما من قرارالحل.. واندفاع الجهاز السرى للإخوان فى حملة إرهاب من النسف والقتل أصابت المجتمع بالرعب.. ودارت آلة العنف الحكومية فى المقابل فتم اعتقال قيادات الإخوان وأعضاء الجهاز السرى وجهاز الاستخبارات.. وطاردت العناصر الهاربة التى قامت بعمليات نسف ومحاولات لاغتيال رئيس الحكومة الجديد وقتها ورئيس مجلس النواب وقادة وزارة الداخلية.. وظل الشيخ حسن البنا طليقا.. يرجو إنقاذ البقية الباقية من جماعته.. يتردد على مكاتب الوزراء والمسئولين فلا يستقبله أحد.. ومورست ضده كل أنواع الضغوط حتى ضعف تماما واستسلم لقدره.. وبدأ يصدر البيانات التى تدين رجاله، وتتبرأ من أعمالهم.. فهم «ليسوا اخونا وليسوا مسلمين» وانهار عبدالمجيد حسن عقب ذلك وبدأ يدلى باعترافات مفصلة تدين المرشد وكبار قادة الإخوان.. وتلقى البنا تهديدات بالقتل من الإخوان المسجونين.. وبدأت الصحف تنشر أنباء عن آلاف الاستقالات من الإخوان.. ويكتب مرتضى المراغى مدير الأمن العام وقتها: «عجزت قيادة الإخوان عن إعادة المارد إلى القمقم، وأصبحت الهيئة العليا للإخوان بلا حول ولا طول إزاء الجهاز السرى، ولم يعد الشيخ البنا قادرا على الحد من قوة الجهاز الذى أنشأه»، ويقول الشيخ الباقورى.. وكان من قيادات الإخوان وقتها «حسن البنا أتعبته بطانته، أو بعض بطانته، ولو قدر له أن تبتعد عنه هذه البطانة السيئة لكان قد بلغ ما نحب لأمثاله». وبدأت الاتهامات إلى الإخوان والشيخ البنا شخصيا.. تنفى عنهم فكرة الجهاز وتصفهم بالإرهاب وإباحة دم المسلم، قال أحمد حسين زعيم مصر الفتاة إنه عقد اجتماعا مع البنا حضره مصطفى الوكيل وأحمد السكرى للاستفادة من إمكانات الإخوان فى تنفيذ خطة لتفجير ثورة شعبية ضد الانجليز فكان رد البنا «إننا لا نبحث عن مغامرة قد تخيب وتفشل».. وتوسعت الصحف فى نشر اعترافات عبدالمجيد حسن حول رفض الإخوان لارسال المطالبين بالجهاد فى فلسطين وقولهم «إن الجهاد ليس مقصورا على فلسطين.. والصهاينة موجودون فى مصر.. وعلى الجهاز السرى أن يوجه نشاطه وجهاده إليهم».. ثم إن القيادات كانت تؤكد «أن قتل المسلمين الذين ثبت أنهم يعاونون الأعداء مقرر فى الشريعة الإسلامية فى عهد سيدنا محمد، وكانت أول مرة أسمع فيها قصصا حدثت فى صدر الإسلام تؤكد أن قتل المسلم الخائن فى نظرهم جهاد يثاب القاتل عليه بدخول الجنة.. وكان الشيخ البنا شخصيا يؤكد لنا مرارًا أننا «جيش الخلاص» و«جيش التحرير».. وأننا «جنود الرحمن» وأن الأخلاق الإسلامية هى سلاحنا.. كان الشيخ حسن البنا يصدر البيانات المهادنة للدولة، المستنكرة اغتيال النقراشى باشا رجل الدولة العظيم على حد قوله.. وغيره من الشهداء.. وبقايا جهازه السرى الهاربة تمارس العنف بضراوة، وبعد بيان البنا «هذا بيان للناس» بيومين حاول شفيق أنس عضو الجهاز السرى نسف محكمة الاستئناف لوجود أدلة ضد الإخوان بها.. وارتاب السعاة فى الحقيبة التى تركها شفيق فحملوها بسرعة خارج المحكمة لتنفجر فى الشارع ويصاب 25 شخصا من المارة ويقبض على شفيق.. وقال الباقورى «إن الحادث جعل الدنيا على سعتها أضيق فى عينى المرشد من سم الخياط».. ويبدو أن الشيخ البنا الذى شقى شقاء لا آخر له.. قدر له أن يستريح.. بعد أن أفرغته السلطة من كل قيمة أمام أتباعه.. فتم اغتياله فى 12/2/1949 بعد شهر و4 أيام من اغتيال النقراشى باشا.. يرحمهما لله.