الشيخ أحمد بن شرقاوي رحمه الله لمحات من حياته وسيرته (1250 - 1316 هج / 1834 - 1899 م) لعل الأصدقاء الفضلاء يعرفون من صحبتهم لى على الفيسبوك، ومن سياستي فيما أنشره على صفحتي فيه منذ أن افتتحتها أنني - والحمد لله- لست من هواة الحديث عن النفس، ولا من أولئك الذين يستهويهم التفاخر بأسلافهم، والتمدح بمناقبهم، ولعل القريبين منى يعرفون ذلك فىّ أيضا، وهذا من فضل الله على الفقير. ولكن بعض الاعتبارات-ولا داعى للإفصاح عنها-حدت بي إلى اتخاذ هذه الخطوة، ودعت إلى نشر ما سوف أنشره بإذن الله في هذا الصدد. هو: أحمد بن شرقاوي بن مساعد بن تائب بن خلف بن يوسف بن خلف بن عبد السلام. ينتهى نسبه من جهة أبيه إلى الصديق رضى الله عنه، ومن جهة أمه إلى الحسين بن على رضى الله عنهما. ويعرف عند كثير من الناس باسم (أبو المعارف). لم يكن والده من كبار الأثرياء، ولا من أصحاب النفوذ، كما لم يكن من أهل الفقر والحاجة، ونستطيع أن نصفه- بالتعبير المعاصر-بأنه كان من شريحة ضمن شرائح الطبقة المتوسطة. الشيخ أبوالوفا الشرقاوي كانت قرية (الخلفية) التابعة لمدينة (جرجا) موطن أجداده القدامى، ثم استقر جده السادس عبد السلام بقرية بمركز (فرشوط) بمحافظة (قنا) تدعى (دير سوادة)، واشتهرت فى عهد الشيخ أحمد بن شرقاوى باسم (دير السعادة)،ثم سميت رسميا بعد ذلك (نجع الشيخ الشرقاوي).وبهذه القرية كانت ولادته ونشأته وحياته. استهل حياته-كما هو الشأن في تلك الأيام- بحفظ القرآن الكريم ببلدته، وببلدتى (فرشوط وبهجورة) القريبتين منها. ثم تطلعت نفسه إلى العلم، فقضى مدة من الزمن بمدينة (جرجا)، وكانت (جرجا) فى ذلك الوقت هي مربع العلم في صعيد مصر، عامرة بالعلماء، غنية بحلقات الدرس فى المساجد وغيرها. تزود من العلوم خلال مدة إقامته بجرجا بقدر كاف، مقبلا على أنوعها المختلفة من شرعية وعربية، ونقلية وعقلية. وبانتهاء هذه الحقبة من حياته كانت شخصيته قد استوت على أساس علمي متين، وكان ذلك قبل أن يشرع في طلب التصوف، فقد كانت مرحلة العلم عنده سابقة على مرحلة التصوف، وهذا ما نريد أن نقف عنده، فإن من الضروري في رأينا أن يكون تحصيل المهم من أساسيات العلم في فنونه المختلفة سابقا على السير في طريق التصوف، أو على الأقل متزامنا معه، حتى يكون هذا الزاد العلمي مصباحا يستهدى به سالك هذا الطريق، وحصنا له من الانحراف والشطط . ونصيحتنا التي نزجيها للراغبين في السير الصوفي: اطلبوا العلم قبل أن تطلبوا التصوف. ثم نازعته نفسه إلى ارتياد طريق التصوف، فساقه القدر إلى العارف بالله القطب الشهير سيدى أحمد بن محمد الخضَيْرى الطهطاوى رضى الله عنه، فكان اتصاله به معلما فاصلا في حياته، وكان ذلك سنة 1281 هج / 1864 م .وهو شيخه في الطريق وأستاذه. يقول فى رسالته (شمس التحقيق): أعلم أنه لم يجتمع لي العهد والتلقين إلا على إمام زمانه، وهمام أوانه، صاحب الأنفاس العالية، والنفحات المتوالية، مَن شمس مجده مشرقة، وحديقة مده مونقة، بركة العصر، وغرة الدهر، قدوتي في سيرى: سيدى ومولاي العارف بالله السيد أحمد الخضيري وقد تلقى الشيخ الخضيري عن الشيخ السّكّرى، وتلقى السكرى عن القطب أحمد الدردير رضى الله عنهم، فبينه وبين الإمام الدردير واسطتان فقط. ويصف هو هذا اللقاء الأول بشيخه فى رسالته (شمس التحقيق) قائلا:فما زلنا سائرين حتى دخلنا بلدة (طهطا) أتاح الله لها كل خير، وأماط عنها كل أذى وضير، فسألنا عن حضرته فقيل لنا: ذهب لصلاة الجمعة بالمسجد الفلانى، فلما دخلنا من باب ذلك المسجد فإذا الأستاذ جالس كأنه كوكب متوقد، فجلسنا خلفه وجلين من الرد، فزعين من خشية الصد، لأنه رضى الله عنه كان مشهورا برد أكثر الواردين عليه، ومنع أكثر الطالبين لما لديه، فصرت أقدم رجلا وأؤخر أخرى، وكلما تقدمت لطلب المراد رجعت القهقرى، ثم ارتكبت الخطر، وطلبت ذلك منه، فأجابني رضى الله عنه بطلاقة وجهه البسيم، وعطف علينا عطف الوالد الرحيم، ولقننا واحدا بعد واحد، وعلينا تلوح أنوار تلك المشاهد. وهو يعنى ما يعرف عند الصوفية بالتلقين، وبعد هذه البداية المشتملة على التلقين وأخذ العهد تجيىء المرحلة التالية وهى تدريج الشيخ لمريده في الأسماء السبعة المعروفة في الطريق، وهي (قوى- الله - هو- حق- حي - قيوم- قهار) وذلك بنظام معين وحسب حال كل مريد. ولتوضيح ذلك نقول: إن عوائق النفس عند أهل التصوف، وحجبها التي تحول بينها وبين الوصول إلى الله، وتمتعها بالقرب منه سبحانه مراتب ست، وتلك هي أمراضها المقصودة بالمداواة، وقد اختار القوم لكل قسم من هذه الأقسام الستة اسما مخصوصا من أسمائه تعالى يناسب ذلك القسم، ثم جعلوا الاسم السابع بمثابة تقوية للسالك، أو مناعة يتأكد بها تباعده عن تلك الأمراض، فهو سياج يتمم تحصينه من عودة تلك الأمراض لنف توثقت صلته بشيخه، وأكثر من زيارته والتردد عليه، واستمرت مرحلة تدرجه في الأسماء على يد أستاذه ثلاث سنوات. وفى شعبان سنة 1284 هج / 1867 م أجازه شيخه بنشر الطريق، وأذن له بالإرشاد. وتلك مرتبة لا تمنح إلا بشروط صارمة، وبعد اختبارات دقيقة وطويلة، يتأكد بعدها الشيخ من أن تلميذه قد استكمل عدته، وأصبح صالحا لتولى زمام القيادة الروحية. أو هذا ما ينبغي أن يكون. منهجه في التصوف: الأساس الأول الذى قام عليه منهجه في التصوف هو الالتزام التام بالكتاب الكريم، والسنة المطهرة. ولندعه يفصح هو نفسه عن ذلك، وننقل من نصوص كلامه ما يصرح بمعالم منهجه. قال في إجازته لتلميذه العارف بالله السيد يوسف الحجاجي الأقصري رضى الله عنه: فالأعمال الحقيقية ما وافقت الكتاب المبين، وطابقت ما كان عليه سيد الأنبياء والمرسلين، فإن رأيت الناس قد اجتمعوا على عمل ومدحوه، ونهضوا إليه واستحسنوه، فزنه بميزان الشرع الشريف، وامتحنه بمعيار السَّنن المنيف، فإن اتزن فبادر إليه، وحالفه واعكف عليه، وإلا فدعه إلى ورا، وارجع عنه القهقري. وقال في رسالته (نصيحة الذاكرين): والحقيقة لا وجود لها بدون الشريعة، وقال سيدى إبراهيم الدسوقي رضى الله عنه: إياكم والدعاوى التي لا يشهد لها كتاب ولا سنة، فإنها سبب طردكم عن رحمة ربكم، وقال أيضا: طريقنا هذا مضبوط بالكتاب والسنة، فمن أحدث فيه ما ليس في الكتاب والسنة فليس هو منا ولا من إخواننا، ونحن بريئون منه في الدنيا والآخرة ولو انتسب إلينا بدعواه . انتهى . فما دام الشخص ثابت العقل مختارا فهو مخاطب بالشريعة، لا تسقط عنه في حال من الأحوال. ويقول في الرسالة السابقة أيضا: ولهذا كان سيد رؤساء هذه الطريقة سليمان الدارانى قدس الله سره يقول: ما حُرموا الوصول إلا بتضييعهم الأصول فشريعة بلا حقيقة عاطلة، وحقيقة بلا شريعة باطلة. وقال كذلك في تلك الرسالة في معرض جداله مع بعض المنتسبين للتصوف المتلبسين بالبدع والخرافات من معاصريه-ما نصه: وماذا علينا إذا وافقنا الله والرسول، وتركنا ما عليه الأسلاف والأصول، فإن الشرع حجة عليهم كما هو حجة علينا، وليسوا هم حجة على الشرع، فإنه يحتج به لا عليه. إذا عرفت ذلك عرفت أن الاحتجاج بالأسلاف لا فائدة فيه ولا إسعاف. وقد نص في رسالته (شمس التحقيق)على صيغتي كل من العهد، والتلقين المعروفتين عند المحققين من أهل التصوف، فذكر من صيغة العهد ما نصه: أعاهدك يا ولدى على ألا تباشر كبيرة، ولا تصر على صغيرة، وأن تعمل بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حسبما استطعت ومن صيغة التلقين ما لفظه: اسمع وصيتي إليك، وأعمل بها: أن تتقى الله في سائر أحوالك، وتخلص في جميع أعمالك، ولا تلتفت لنظر الخلق إليك، بل غب عنهم بنظر الله لك، واطّلاعه على سرك وعلانيتك. وعليك باتباع الكتاب والسنة فإنهما الطريق الموصلة إلى الله تعالى. وهذه ولله الحمد نصوص صريحة قاطعة لا تحتمل اللبس. وقال في قصيدته (شمس التداني): يا صاح جىء نحونا إن كنت ذا نظر * تجد كئوس الجوى تصفو بلا كدر فمربعى فى كتاب الله من صغر * ومرتعى سنة المختار من مضر ومنهجي قد علا عن نزغ شيطان ************************** عاينتُ صفو الطلا يبدو لشاربه * ويمطر الحكمة الحسنا لطالبه وأغلب الناس يلهو في مآربه * وسرت سيرا قويما لا اعوجاج به وكيف لا وسبيل الشرع ميزاني والأساس الثاني الذى قام عليه تصوفه هو الكتمان، وإخفاء الأحوال. يقول في معرض حديثه عن تدرجه في الأسماء على يد شيخه: وفى الاسم الرابع حصلت عجائب، وظهرت غرائب ينبغي كتمانها. وقال متحدثا عن شروط الشيخ المرشد: إذ شرط المقتدَى به في هذا الطريق أن يكون برزخا جامعا بين الحق والخلق،.........، متمكنا بحيث لا تغيره الأهوال، ولا تعدو عليه سطوات الأحوال. الشيخ أحمد بن شرقاوي ودعوته إلى الله من خلال التصوف بداية نشير إلى أن نشر الطريق اقتضى منه في مرحلة من مراحل حياته التنقل، والإقامة خارج بلده بعض الأحيان، وفى أثناء تلك المرحلة أقام ردحا من الزمن في ضيافة قبيلة (أولاد يحيى)بمركز(دار السلام) بمحافظة ( سوهاج)، وأنتهز الفرصة لأداعب أخي وحبيبي وصديقي وزميلي الأستاذ الدكتور الحسن عبداللطيف اللاوي (نحن على استعداد لدفع الفاتورة)، وأقام ببلدة (المطاعنة) بمركز(اسنا) بمحافظة (الأقصر) حقبة من الوقت، ولا تزال الصلة بهما ممتدة حتى اليوم، ونرجو أن تستمر إن شاء الله. يمكن القول: إن رسالة الشيخ أحمد بن شرقاوي الصوفية كانت ذات شقين أو مسارين: الشق أو المسار الأول هو تربية النفوس، وإعدادها لتقوى الله، ومداواة أمراضها، وغرس خشية الله ومراقبته فيها. وهذه هي مهمة الأشياخ المرشدين بوجه عام. أما المسار الثاني فهو محاربة البدع والخرافات التي علقت بالطريق، والتي تلبس بها بعض المنتسبين إلى التصوف في زمانه، وعلى رأسها اللحن في الذكر، والخروج به عن قوانينه اللغوية والشرعية. وقد تحدث عن هذا الجانب بالتفصيل في رسالتيه (شمس التحقيق، ونصيحة الذاكرين) وقص فيهما ما كان بينه وبين خصومه من أدعياء التصوف من نزاع وحجاج، وما أنشأ من الردود الدامغة على دعاواهم. وإنا لذاكرون طرفا من ذلك. قال في (نصيحة الذاكرين):لما طوقني أستاذي بطوق الإرشاد، وأذن الله أن أشتهر بين العباد، اجتمع معي خلق كثيرون على ذكر الجليل، ليظفروا بالدرجات العلى والثواب الجزيل، وسلموا إلىّ قيادهم، وطلبوا منى إرشادهم، فوجدت الذكر الذى عليه أكثر الناس مقيمون، وعلى استحسانه متواطئون ومتفقون، مشتملا على تقطيع كلمة التوحيد، وقَصْر علَم الحق المجيد، وصار العلَم الشريف (الله) بدون ألف بعد اللامين، وربما مدوا همزته وأبدلوا هاءه واوا، وذلك ممنوع بنصوص الأعلام، فلا ثواب فى تكراره ولا إكرام، ورأيت إقرار إخواني عليه مع علمي بما فيه غشا لهم في الديانة، وغرورا بهم وخيانة، وخشيت أن أقع في الوعيد المشتمل عليه قوله عليه الصلاة والسلام (من غشنا فليس منا) فغيرت هذا الأسلوب العقيم بذكر على أقوم هيئة وأحسن تنظيم، فجاء أقوام يريدون إطفاء نور ذي الملك والملكوت، متمسكين بما هو أوهى من بيت العنكبوت، فتارة يقولون: الذكر مندوب إليه كتابا وسنة فكيف تحكمون بتحريمه؟ فنقول لهم: ما هذه المكابرة، وما هذه المغالطة الظاهره؟! نحن حكمنا بتحريم تقطيع أسماء الله تبارك وتعالى، ولم نحكم بتحريم أصل الذكر، كيف وفى استعماله ابتهاجنا، وبه إلى الله سيرنا وانتهاجنا، وما ذاك إلا كتحريم القراءة الملحونة، والصلاة غير تامة الأركان، أفي ذلك تحريم لأصل القراءة، وأصل الصلاة؟ لا والله، وتارة يقولون: هذا الذكر قد شاع وذاع، وملأ البقاع، فنقول لهم، الحرام حرام ولو كثر ارتكابه، وعم اكتسابه، إذ هو ما يثاب على تركه ويعاقب على فعله، لا ما قل فاعله، حتى يَرِد ما ذُكر. وتارة يقولون: هذا- أي ما تعترضون به-ما عليه الفقهاء وأهل الشريعة، وأما نحن فمن أهل الطريقة والحقيقة، وهم- أي أهل الطريقة والحقيقة - لا يقفون عند أقوال الفقهاء. فنقول: نعوذ بالله من هذه المقالة، ونعتصم به من هذه الضلالة، فإن كل من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق. فلم تكن إذن رسالته الصوفية تربوية فقط، وإنما كانت تربوية وإصلاحية. ولعل هذا ما يعطيه مزية على بعض-ونؤكد على كلمة (بعض)- حاملي لواء الإرشاد من أهل التصوف. ولا نود أن تفوتنا الإشارة إلى أنه كان يلتزم السجع في أسلوبه، كما يبدو هذا من نصوصه التي نقلناها سلفا، وكما سيلاحظه بالطبع القراء الكرام، ولكن ذلك كان هو العرف السائد في زمانه، والطابع العام للتأليف والإنشاء في عصره وما قبله، أما أن السجع عنده متكلف أو غير متكلف فذلك ما سنلتزم حياله الصمت، ونترك الحكم فيه لأهل البيان، وأصحاب الشأن. كاتب المقال: المفكر الإسلامي الدكتور أبوالمجد أحمد أبوالوفاء الشرقاوي مدرس بقسم النحو والصرف بكلية اللغة العربية بجرجا جامعة الأزهر .