كثيراً ما يتصادف ركوبك في أي وسيلة مواصلات عامة مع نقاش سياسي أو إقتصادي ساخن يتبادل أطراف الحديث كل الركاب ، و يشاركهم السائق بالرأي من الحين للآخر ، هذا النقاش يكون ثري و متنوع ، فهو يختلف كثيراً عن تلك النقاشات المتعمقة التي تبثها الفضائيات والتي كثيراً ما تصيبك بالملل إما لسوء إدارة الحوار و كثرة الفواصل أو لعدم إلتزام أياً من ضيوف تلك البرامج بأدب الحوار و الاطار العام للأخلاق والذوق ، هذا بخلاف قدرتك علي المشاركة في نقاش المواصلات دون ان تدفع أي أموال زائدة علي عكس البرامج التي تستوجب الاتصال حتي تشارك برأيك بعد أن تمر دقائق عديدة وأنت تنتظر ! في إحدي النقاشات كان الأمر يدور حول مدي جدوي اللجان الكثيرة التي يتم تشكيلها للبحث في أمر ما ، أزمات كثيرة مرت بها مصر مؤخراً ، ومع كل أزمة أو مشكلة يتم تشكيل لجنة جديدة لبحث الأمر ، وربما تشكل اللجنة لجنة أخري فرعية ، واللجنة الفرعية تشكل لجنة منبثقة ، و هكذا يستمر تشكيل اللجان .. قال أحدهم أثناء النقاش: " إذا أردت أن تموت أي قضية .. فشكل لها لجنة ! " . الحقيقة أنه في دولة المؤسسات تجد أن العمل يسير بصورة متواصلة وعلي وتيرة متسارعة، فالقواعد والقوانين واضحة للجميع، ويعرفها القاصي والداني ، تلك القواعد والقوانين التي قد وضعت بهدف فرض النظام وتسهيل الإجراءات وتيسيرها، وليس العكس ، في دولة المؤسسات لا يتوقف الأمر علي فرد أو اثنين أو مجموعة، فالعمل يسير، بغض النظر عن طبيعة الأفراد والمسئولين، فالمنظومة المؤسسية هدفها الحفاظ علي سير العمل دون توقف وبدون بيروقراطية.. ويفترض أننا دولة مؤسسات، أو علي الأقل كما ندعي ذلك ، لكن يبدو أننا ننفذ العمل المؤسسي بشكل يزيد الأمور تعقيدا والتواءاً، فبدلا من أن يكون تعدد السلطات وتشعبها سبيلا لتقريب متخذي القرار من المواطنين، يصبح سبيلا للعطلة والتأخير، وأحد أهم أمثلة البيروقراطية والروتين لدينا هي: اللجان! فإذا ما حدثت حادثة أو مشكلة أو وقعت كارثة، أسرعت الوزارة المختصة او المؤسسة المسئولة بتشكيل لجنة عليا للبحث في الأمر، فتقوم اللجنة بدورها بتشكيل لجنة أخري منبثقة عنها، تلك اللجنة المنبثقة التي تقوم بدراسة الأمر جيداً ثم تتخذ قرارها النهائي بتشكيل لجنة فرعية متخصصة للتحقيق في المشكلة أو الكارثة ، وبعد دراسة مستفيضة من اللجنة الفرعية تقوم هي الأخري بتشكيل لجنة ثانوية أو أكثر لبحث الأمر، وبعد تحقيق وتمحيص وتدقيق لفترة طويلة تتوصل اللجنة الثانوية إلي الأسباب التي أدت إلي الكارثة أو المشكلة، وترفع الأمر إلي اللجنة الأعلي منها.. فالأعلي فالأعلي.. حتي تصل أسباب المشكلة إلي متخذي القرار ، فيأمرون بتشكيل لجنة عليا أخري لدراسة أسباب المشكلة ووضع حلول لها ، تلك اللجنة التي تقوم بتشكيل لجنة أخري.. الخ الخ ' وهكذا يتوالي تشكيل اللجان الواحدة تلو الأخري '. كل هذه اللجان التي يتم تشكيلها، والتي تنبثق الواحدة تلو الأخري لحل المشكلة، كان يمكن حلها في لحظات معدودة لو قام أحد كبار المسئولين بالنزول من مكتبه لبحث أسباب المشكلة والوقوف علي طبيعة الأمر بنفسه ، فهذا العدد الهائل من اللجان، والتي تلد كل لجنة منها لجنة أخري، بتكاثر لا جنسي أو ربما استنساخ، يستنزف الكثير من الوقت والجهد والمال، إلي جانب أنه يزيد الأمر سوءا وتعقيدا، وربما نتجت مشاكل أخري وتفاقمت نتيجة التأخر في حل المشكلة الأساسية ، أتذكر الآن فيلم ' أرض النفاق ' للفنان الكبير فؤاد المهندس وأتذكر تحديدا كيف أن نقصان 'شنكل' من أحد شبابيك مبني المصلحة قد دفع مديرها 'الفنان حسن مصطفي ' إلي إرسال العديد من الشكاوي والخطابات المسجلة بعلم الوصول لإجبار المقاول علي تركيب 'الشنكل '، الأمر الذي استنزف الكثير من الأموال والأوراق والأوقات، وأدي إلي تشكيل العديد من اللجان الفرعية والثانوية والمنبثقة بهدف تركيب 'الشنكل '! لا يخلو أي مكان تذهب إليه وأي زمان تعيش فيه من اللجان، حتي باتت ظاهرة تستوجب الدراسة و البحث في أسباب إدماننا لتشكيل اللجان فالأمر قد تجاوز حدود المعقول ، هناك الكثيرين ممن فقدوا أرواحهم و سالت دمائهم و تدهورت أوضاعهم جراء أحداث كثيرة حدثت و لم يتم البت في أمرهم حتي الان .. والأسوأ أنه كلما طالبوا بتوفيق أوضاعهم وحل مشكلاتهم وعودة مستحقاتهم المشروعة يكون الرد عليهم بأنه قد تم تشكيل لجنة أو لجان للبحث في الأمر .. علي غرار المقولة الشهيرة: ' ما الدنيا إلا مسرح كبير ! '.. أري أنه : ما الوطن إلا لجنة كبيرة !