يهل علينا هذه الأيام موسم الحجج للعام الهجري للعام الهجري 1440, الموافق العام الميلاي2019 ، ومن المظاهر الاحتفالية المصرية العريقة التي كانت تحتفل بتلك المناسبة وبخاصة بعد الانتهاء من شهر رمضان أي خلال شهر شوال وشهر ذي القعدة وأوائل شهر ذي الحجة حيث كان يبدأ الاحتفال والاستعداد له مبكرا بمصر، ومنها قيام الفنانين الشعبيين المبدعين المصريين بالقاهرة بإعداد وحياكة وزخرفة محمل وكسوة الكعبة التي كانت تزين في كل عام في النصف الثاني من شهر شوال استعدادا لرحيلها على الجمال مع وفد الحج المصري الذي كان يستقبل الوفود القادمة من بلاد المغرب العربي وإفريقيا لتتجمع بالقاهرة وتحديدا بجوار قلعة صلاح الدين الأيوبي إيذانا ببدء الرحلة المباركة التي كانت تشتمل علي كل أشكال الفنون الشعبية كالأغاني والابتهالات والأدعية الدينية والأغاني والأهازيج الشعبية وتوزيع الأطعمة والحلوى مع توديع الكثير من جماهير الشعب المشاركة التي كانت تحرص علي المشاركة في العرس الديني الكبير ، وقد أمدتنا كتب التراث من العلماء والمستشرقين بالكثير من المعلومات الهامة والتفصيلية عن تلك الرحلة وعن كل ما يتعلق بالعادات والتقاليد المرتبطة بها كابن بطوطة ، والقلقشندى في كتابه صبحي الأعشى في العصر المملوكي وأيضا العياشي في كتاباته ومشاهداته عن المحمل في العصر العثماني ،وإدوارد وليم لين في كتابه المصريون المحدثون عادتهم وشمائلهم وغيرهم من المهتمين برصد وتسجيل الوقائع التاريخية والفلكلور بالقطر المصري . فالمحمل حسب تعريف موسوعة الويكيبديا يطلق على الجمل الذي كان يحمل الهدايا أو الكسوة الموسمية إلى الكعبة وقد كان السلطان بيبرس بمصر من أوائل من احتفلوا بسفر المحمل بالقاهرة إلى مكةالمكرمة وكان يعرض كسوة الكعبة قبل سفرها بأيام وأصبح المحمل تقليدا متوارثا يقوم به ملوك مصر وسلاطينها مع احتفالهم بعودة المحمل من الحجاز حاملا الكسوة القديمة التي كانت تقطع وتوزع بين السلاطين والملوك والنبلاء من أجل نيل البركة . والمحمل نفسه هو عبارة عن هودج فارغ يقال أنه كان هودج شجرة الدر التي كانت تهتم أثناء حكمها لمصر بتلك المناسبة ، أما الكسوة نفسها فهي كانت توضع في صناديق وتحملها الجمال المحناه والمزينة بكل أنواع الزينة ، وكان المحمل يطوف الشوارع قبل الخروج إلى الحجاز ويصاحب طوفاته العديد من الاحتفاليات وخروج الرجال والنساء والأطفال واصطفافهم على الطرق لمشاهدة حدث فلكلوري كبير يصعب الآن تكراره كما كانت تزين المحلات التجارية في أحياء وشوارع مصر القديمة مع الرقص بالخيول وغيرها من المبارزات ونمر الحواة وأذكار الطرق الصوفية ، وكان الوالي أو نائبا عنه يحضر خروج المحمل بنفسه ويبارك أمير الحج المتعهد والمؤتمن على الرحلة لحمل كسوة الكعبة التي تعتبر أقدس الأماكن عند المسلمين. كان المحمل المصري عبارة عن إطار مربع من الخشب هرمي القمة له ستر من الديباج الأسود وعليه كتابات وزخارف مطرزة بالذهب وآيات قرآنية وكان يشتمل المحمل على كسوة الكعبة وأحزمتها الحريرية المزركشة بالقصب وإلى جانبها كسوة مقام إبراهيم الخليل محمول على الأكتاف ثم يلتقي المحمل بالكسوة ويسير الموكب بكامله في شوارع القاهرة وصولا إلى العباسية ويسافر منها إلى السويس ثم مكة حاملا معه الكسوتين والروائح المعطرة والهدايا والخرق الجديدة التي تغسل بها الكعبة ، ويقال أن الفاطميين هم أول من اهتموا بكسوة الكعبة ولكن تلك العادة ترجع في مصر إلى أكثر من ذلك بكثير ويقال أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان يطلب من الأمراء أن تصنع كسوتها في مصر بالقماش القباطي نسبة إلى أقباط مصر بمدينة الفيوم بسبب مهارتهم في صناعة النسيج في هذا الوقت ، ويقال أيضا أن أمراء الدولة الأيوبية وسلاطين المماليك كانوا في غاية الكرم يقول إدوارد لين في كتابه المصريون المحدثون " كانت العادة في السنوات السابقة أن يحمل المحمل بفخامة فائقة وخاصة في أيام المماليك الذين كانوا يحضرون الموكب في أفخ ملابسهم عارضين أفخر الأسلحة ويتسابقون وكانت العادة أن يسبق المحمل فرقة من السعدية يأكلون الثعابين الحية وعند مرور المحمل كان يتدافع الناس في الشوارع بعنف ليلمسوه بأيديهم تبركا وكان يقبلوه مع زغاريد النساء من نوافذ المشربيات وغيرها من فرق الطبول والمزامير والموسيقى لعظمة هذا اليوم ويقال أن الظاهر بيبرس قد أرسل مائتي ألف درهم إعانة للحجاز لشريف مكة ، أما السلطان قلاوون فقد خصص ريع بعض القرى في مصر والشام لصالح الحرمين الشريفين ، وقد استمرت الهدايا تتدفق على بلاد الحرمين في العصر العثماني إلى الأراضي الحجازية من مصر محملة بالعوائد من القمح والمؤن والسلع الضرورية من الحكومات المصرية المتعاقبة ، وقد حاول الكثيرين منازلة مصر في هذا الكرم إلا أنهم فشلوا في كل محاولاتهم ، وعندما جاء محمد علي أمر بأن تمنح نفقة كسوة الكعبة من خزينة الدولة التي آلت إليها كل الأوقاف وتأسس على يديه مكان مخصص لصناعة الكسوة بدار الخرنفش بحي باب الشعرية بالقاهرة ومازالت آخر كسوة من عهد الرئيس عبد الناصر معروضة بها . وظلت تلك المناسبة الجميلة مستمرة عبر قرون حتى عام 1927 عندما أصدر الملك عبد العزيز آل سعود قرارا ملكيا بإنشاء مصنع أم القرى لصناعة الكسوة الشريفة بمكة وفي العام 1979 تم إنشاء مصنع أم الجود بمكةالمكرمة مازال يصنع الكسوة الشريفة بروعة واقتدار إلى يومنا هذا وظلت ذكرى وقصة المحمل المصري خالدة إلى يومنا هذا لتثبت قدم وتاريخ العلاقة القوية وأواصر الصداقة والارتباط الديني والتاريخي بين الشعب المصري والشعب السعودي التي لن تتغير أبدا مع نجاح باهر وامن للحج .