من جديد أحاول الخروج من الصندوق الضيق وأنظر إلى الواقع المصرى الذى مازال يعانى من بعض العلل الفكرية والاجتماعية الحادة فى سنواتنا الأخيرة وأتساءل: لماذا لا ينشط المجتمع المدنى أكثر من ذلك؟ وإلى متى سنظل مرتبطين بفكرة الدولة الأم التى يجب عليها أن تلتزم بشكل غير منطقى بتلبية كل احتياجات المواطن دون أن يساهم المواطن نفسه خاصة القادرين بشكل فعال فى تحقيق درجة من التكافل ومد يد العون للآخرين؟ يبدو أننا ما زلنا فى حاجة ماسة لتنشيط العمل الاجتماعى القائم على التعاون بين طبقات المجتمع فأصحاب الفكر وأصحاب درجات التعليم المميزة ورجال المال والأعمال مازال عليهم الكثير والكثير تجاه الطبقات الأقل فى المستوى أو الفئات الأكثر احتياجًا للعون والدعم فلماذا لا تزداد جرعات العمل التطوعى القائم على العطاء والمساعدة وتنشط حركات التنوير المستقلة فى توقيت تعانى فيه الدولة من عدم القدرة على الوصول إلى مستويات أفضل مما هو متاح وفقا للإمكانيات والظروف الاقتصادية الراهنة التى يعلمها ويشعر بها الجميع؟ تابعت هذا الأسبوع فكرة رائعة تنفذها مجموعة مثقفة وواعية من خريجى مدارس الرهبان والراهبات فى الإسكندرية والذين قرروا أن يكون لهم دور فى رد الجميل لمجتمعهم الذى تربوا فيه دون انتظار مقابل أو حتى كلمة شكر وبعيدًا عن الأضواء والأغراض فأسسوا لأنفسهم تجمعًا على موقع الفيسبوك فى شكل مجموعة للتواصل أسموها اختصارًا (Esfa) وانطلقوا منها لتقديم خدمات تطوعية وتنويرية عديدة فى ربوع الإسكندرية شملت تقديم الطعام والملبس والأدوية والأغطية لسكان المناطق الأكثر فقرا فى المحافظة ورواد الملاجئ ودور الأيتام ودعمهم بما يقدرون أو بما يفيض عن حاجتهم فى شكل راقٍ للتكافل بين شرائح المجتمع قد يؤدى بنا إلى تقليل الفجوة بين الفقراء والأغنياء والوصول إلى شكل متوازن للحياة على هذه الأرض الطيبة. فكريًا وثقافيًا أيضًا يسعى هؤلاء الرائعون إلى نشر قيم وأخلاق تربوا عليها فى الصغر وتعلموها جيدًا فى مدارسهم المنتشرة فى الإسكندرية على يد مدرسيهم الذين ربوهم على تقبل الآخر أيًا كان انتماؤه الدينى أو الفكرى وأخبروهم أن الأرض تتسع للجميع دونما تعصب أو عنصرية وأن قيمة الإنسان تكون فيما يعطيه للآخرين لا فيما يأخذه منهم.. علموهم العطاء والإيثار فى الصغر فأرادوا أن يعيدوا بث هذه القيم النبيلة فى ربوع المجتمع عن طريق قوافل التوعية ومحطة الراديو التى أنشئوها على موقع اليوتيوب فى توقيت طغت فيه افكار دخيلة على وجدان الشعب المصرى بحكم الغزو الفكرى الممنهج الذى يمارس علينا منذ سنوات طويلة لإفقادنا هذه اللُحمة الوطنية الرائعة التى كانت وستظل دائمًا من أفضل وأعظم جيناتنا المصرية الأصيلة. أرادت السيدة دعاء طاهر صاحبة الفكرة ومؤسسة هذا التجمع أن توظف تلك الطاقات الفكرية والقامات المتواجدة معها فى هذه المجموعة والذين بلغ عددهم حوالى 25 ألف فرد حتى الآن وأن تعيد إحياء تلك الأخلاق الرائعة التى تربينا عليها فى الصغر وخاصة فى مدارس الرهبان والراهبات بعيدًا عن السياسة والانتماء الدينى وبعيدا عن أى أهداف أو طموحات شخصية ولكن احترامًا لقيمة الإنسان وحريته وحقه فى الحياة مادام لا يؤذى الآخرين مهما كان معتقده أو فكره. من هنا قد يكون جزء من الحل لكثير من مشكلاتنا الفكرية التى تعانى منها أجيالنا الناشئة وهم يصطدمون كل يوم بثقافات دخيلة قائمة على التعصب والعنف ضد الآخرين والأنانية المفرطة والاتكال على الدولة فى شتى المجالات فى زمان تضاءلت فيه فكرة الدولة الحاضنة أو كادت أن تندثر فى أغلب بلدان العالم وفى توقيت أصبح فيه المجتمع المدنى هو اللاعب أو الشريك الأساسى فى إحداث التوازن بين الطبقات. تحية تقدير واحترام لهذه الفكرة النبيلة ومؤسستها وكل أعضائها ولنر كثيرًا من هذه الأفكار تنفذ على أرض الواقع مع دعمها إعلاميًا ورسميًا حتى تكون ظهيرًا اجتماعيًا للدولة فى سعيها نحو النور والتنمية وبناء شخصية مصرية وطنية قادرة على إعادة أمجاد هذه الدولة العريقة.. شكرًا لمن يقدم شيئًا جديدًا فيزرع فى أرضنا الطيبة خيرًا وينشر فى سمائنا نورًا وتحيا مصر بسواعد أبنائها المخلصين.