من أجل د.ياسر علي المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية.. لجأت إلي المعاجم لعلها توضح المشهد أو تعاون في تهدئة النفس، وإزاحة القلق جانبًا ومعه الهم الذي يتزايد يومًا بعد يوم.. يتشكل ويتنوع ويتلون باختلاف الأحداث، وتواتر الكلام.. حتي أصبح 'الهم' شأنًا عامًا، تتوافر له كل ضمانات الديمقراطية وتكافؤ الفرص. قالت المعاجم 'هجَسَ' الأمر في صدره.. هجسًا أي خطر بباله، وهجس فلان عن الأمر أي ردَّه.. وهاجَسَه أي سارَّه، وتهاجسا أي تسارَّا.. أما 'المهجوس' فيقال: وقعوا في مهجوس من الأمر بمعني وقعوا في ارتباك واختلاط وعماء منه.. أما 'الهَجْسُ' فهو الصوت الخفي يُسمع ولا يُفهم.. والهجس هو كل ما يدور في النفس من الأحاديث والأفكار.. ومن المؤكد أن الحس الشعبي هو الذي قلب السين صادًا، للتضخيم والتفخيم، وأنه من نحت منها الاشتقاقات الجديدة وأذاعها بين الناس حتي صارت جزءًا لا يتجزأ من لغتهم ومعارفهم.. فقال عن الكلام الموسوم بالارتباك والاختلاط والعماء منه، والذي يُسمع ولا يُفهم 'هَجْص' أو 'هَجَايص' وأطلقوا علي من يمارس ذلك لفظ 'هَجَّاص' اسما وصفة معًا.. وهي صيغة مبالغة تعني التهكم، والإقلال من قيمة ما يقال.. والتشكيك في جدواه ومصداقيته.. ولا تحمل أي نوع من العداء أو التربص أو الكراهية.. فالمسألة في نظر أغلب الناس كلام في كلام.. طالما لم يرتبط بفعل أو ينبئ عن عمل محدد واضح.. ولأن كل ذلك قد أثير وتحول إلي لغط شديد في أعقاب العدوان الغادر الذي استهدف إحدي نقاط حرس الحدود عند مدينة رفح.. وتداعيات الحادث البشع، وسلوكيات مؤسسة الرئاسة التي وضعت د. ياسر علي في مأزق.. لأنه مطالب ب'تبرير' كل ما جري وهو ما لا يقدر عليه الرجل وقد جيء به 'من الدار إلي النار' دون خبرة أو تدريب ليسد فراغًا في مؤسسة الرئاسة التي جاءت هي الأخري علي شاكلته.. خاصة أن كل إخواني في مصر اعتبر نفسه مسئولا.. وتصور أن من حقه أن يصرح ويوضح ويجاهر بالقول والرأي فيما يجري.. 'ألسنا إخوة، قد وحدت بيننا الجماعة.. وساوت بيننا البيعة والسمع والطاعة؟' حتي اضطر ياسر علي إلي الجهر علنًا لجميع وسائل الإعلام بأن 'المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية هو الشخص الوحيد الذي يعبر عنها رسميًا'.. ومع ذلك لم يكفّ الإخوان عن التحدث باسم الرئاسة والرئيس.. ولم يتوقف الأمر عند القول بل تعداه إلي الفعل عندما أحاطوا بالمحاكم مهددين... واعتدوا بالضرب علي الخصوم السياسيين داخل المحاكم وفي محيطها.. وفي محيط القصر الرئاسي، وأمام مداخل مدينة الإنتاج الاعلامي وهم يرددون شعارات التأييد لمرسي. وكانت عدوانيتهم 'تبريرًا' للعدوان 'الشعبي' علي رئيس الوزراء وبعض رموز الإخوان أثناء الصلاة علي شهداء رفح.. وهي تصرفات مرفوضة، لا يمكن تبريرها أو القبول بها حتي لو ظل الإخوان يمارسونها اليوم وما بعد اليوم. ومنذ البداية لفت ياسر علي انتباه المصريين لأنه ينوب عن مؤسسة الرئاسة والرئيس لأول مرة في تاريخ مصر.. فقد كان جمال عبدالناصر يتواصل مع شعبه ومع الدنيا مباشرة، وكان بذلك ظاهرة استحقت اهتمام الباحثين في علوم السياسة والاجتماع.. وكان السادات يختلق المناسبات ليتحدث مع 'أولاده' و'جيشه' ككبير للعائلة.. أما مبارك فربما نصحوه بعدم الكلام لفظاظته 'وأنا أجيب لكم منين' و'أنتو عمالين تزيدوا من غير فايدة'.. أما مرسي فقد آثر أن يعين من ينوب عنه في مخاطبة الناس، وشرح وتفسير وتبرير ما يصدر عن الرئيس والرئاسة.. وإن كنا لا ندري المنهج المتبع في ذلك.. فقد كانت معظم تصريحات 'المتحدث الرسمي' إما بسيطة لا تلفت نظر أحد.. ولا تستحق الاهتمام.. وأما مخالفة لما تنبأت به وأخبرت عنه.. وإما محاولات لتبرير ما لا يمكن تبريره.. فعندما تأخر تشكيل الوزارة صرح بأن السبب في ذلك هو 'التأني في الاختيار' حتي 'تكون الوزارة أكثر كفاءة'!! وأنها ستكون وزارة ائتلافية.. وسيكون رئيسها 'شخصية سياسية مستقلة عن الأحزاب السياسية وتحظي بقبول واحترام كل الأطياف السياسية'.. و'سوف يكلَّف رئيس الحكومة الجديد بسرعة التعامل مع القضايا ذات الأولوية والتي تبناها البرنامج الانتخابي للرئيس وهي الأمن والاستقرار والوقود والخبز والنظافة فضلا عن توفير المياه والكهرباء والمنتجات البترولية'.. وفي تصريح آخر أعلن المتحدث أنه 'ربما يتزامن الإعلان عن الفريق الرئاسي مع الحكومة الجديدة وسيتضمن كل أسماء المساعدين والمستشارين للرئيس ومهامهم المرتبطة بالقضايا الخمس إياها'.. وواضح أن ما جري علي الأرض جاء مناقضًا تمامًا لكل تصريحات المتحدث الرسمي، والذي بلغت مأساته ذروتها بعد جريمة رفح.. وغياب مرسي عن جنازة الشهداء لحرصه كما برر المتحدث الرسمي علي 'التواجد الجماهيري وعدم التضييق علي المشيعين بسبب التواجد الأمني الكثيف لحماية الرئيس'... نافيًا أن تكون 'المظاهرات هي السبب في غيابه لأن المظاهرات أصبحت مشهدًا عاديًا بعد الثورة'.. ولم يستطع المتحدث أو من يوحي إليه أن يبرر تأخر ظهور مرسي لست ساعات من الإعلان عن الحادث، وعلي باب القصر الرئاسي في حديث عابر والسيارة تنتظره... وعدم صدور أي بيان رسمي.. وتأخر الإعلان عن الحداد.. والاكتفاء بالوعيد والانتقام دون إشارة إلي هوية المجرمين.. بينما كانت إسرائيل تتابع الموقف دقيقة بدقيقة.. وتواجد قادتها في مكان الحادث فورًا 'ربما لأنهم ضالعون فيه'. وعلي الجانب الآخر تحدث أهل مصر فيما بينهم حول العفو الرئاسي عن إرهابيين قبل الحادث مباشرة.. ثم السماح بحرية الحركة بين غزةوسيناء دون قيود.. وتذكروا اقتحام السجون أثناء الثورة.. وتهريب سجناء حماس وحزب الله إلي ديارهم في الوقت نفسه.. وتحدث الشيخ حسن خلف شيخ قبيلة السواركة بسيناء عن الأنفاق ودورها.. وتكلم الشيخ عبدالله جهامة شيخ مجاهدي سيناء حول سقوط سبعة وعشرين ألف سيناوي في شباك إسرائيل وإيران وحماس وحزب لله.. وأسرار أخري كثيرة.. وفي المقابل صرح المتحدث الرسمي وكأن علي رأسه بطحة.. قال 'إنه لا علاقة للمفرج عنهم بالجريمة البشعة'.. وهز الناس رءوسهم وصمتوا.. كأنهم يقولون: لا تلوموا ياسر علي لأنه يقول ما يؤمر به.. ولا تتهموه ب'الهجص' قبل أن تتأكدوا من وظيفته الحقيقية.. فقد تكون 'المتهجص الرسمي'.. وليس 'المتحدث الرسمي'..