في مقالين سابقين تناولنا نظريتي الحرية والسلطة وآلية عملهما في وسائل الإعلام وكذلك الانتقادات التي وجهت لكل منهما، ومن ثم تم طرح نظرية ثالثة وهي نظرية المسئولية الاجتماعية( Social Responsibility Theory) والتي اتخذت رؤية وسط بين دور الفرد ودور الجماعة، إذ تدعو وكما يذهب مُنظِّروها لممارسة الإعلام بحرية لكنها ليست حرية مطلقة بل مقيدة بما يسمى المسئولية المجتمعية، وقد جاءت هذه النظرية كرد فعل على نظرية الحرية، وذلك بعد أن استخدمت وسائل الإعلام تلك الحرية في التعدي على خصوصيات الأفراد من ناحية وفي نشر المواد الإباحية والمثيرة من ناحية أخرى، إذ تسببت في حالة من الانهيار الخلقي وانحطاط القيم، بل وأصبحت تلك الوسائل الإعلامية أداة طيعة في يد مالكيها يتلاعبون بوعي المجتمعات كيفما يشاءوا، وحسب توجهاتهم الأيديولوجية ومصالحهم الاقتصادية. وفيما يتعلق بملامح تلك المسؤولية فيرى دعاة هذه النظرية أنها يمكن أن تتحدد عبر وضع القواعد والقوانين التي تجعل من الرأي العام ذاته رقيبًا على وسائل الإعلام.
ومن ثم رأى مؤيدو هذه النظرية أنه وفقاً لما تطرحه يجب أن يكون الإعلاميون مسئولين أمام المجتمع، من منطلق دعوتها إلى الالتزام بمجموعة من المواثيق الأخلاقية والمجتمعية من شأنها تحقيق التوازن بين حرية الأفراد ومصالح المجتمع، وكذلك تحاشي كل ما من شأنه أن يساعد على تفشي الجرائم والعنف، والحفاظ على أخلاقيات المجتمع وقيمه التي أضرت بها نظرية الحرية كثيراً، فوسائل الإعلام وفقاً لتلك النظرية عليها الكثير من الالتزامات فلها دور تربوي وتوعوي هام.
غير أن ما أخذه كثيرون على هذه النظرية أنها أصبحت في نهاية الأمر لا تختلف كثيراً عن نظرية السلطة، فباسم مصالح المجتمع وقيمه العليا تم التحكم بوسائل الإعلام والتضييق عليها بشكل كبير، فالدولة هي في التحليل الأخير من يصدر المواثيق والقوانين المنظمة لها والتي غالباً ما تتمركز حول حماية المجموعة الحاكمة وضمان استمرارية بقائها في السلطة خاصة في ظل ما قامت به مجموعات المصالح من تقويض للديمقراطية من داخلها فأصبحت أداة طيعة في أيديهم.
من أجل ذلك تم طرح نظرية رابعة وهي نظرية المشاركة الديمقراطية كرد فعل مضاد للنظريات السابقة (نظرية الحرية ونظرية السلطة ونظرية المسئولية الاجتماعية) وإخفاقها جميعاً في تقديم إعلام حقيقي يعبر عن قناعات وطموحات وآمال الشعوب.
فنظرية الحرية أدت إلى تعاظم سيطرة رأس المال على الإعلام بشكل بشع، وانهيار منظومة الأخلاق المجتمعية فبذريعة الحرية المطلقة أصبح كل شيء مباح، في حين أدت نظريتي السلطة والمسؤولية الاجتماعية إلى سيطرة الدولة على الإعلام بشكل أو بآخر وبنسب متفاوتة، إذ توزعت السيطرة عليها بين الدولة أو مراكز القوى في المجتمع كالأحزاب والتكتلات السياسية ورجال الأعمال. ومن ثم يعتقد المنادون بنظرية المشاركة الديمقراطية أن من شأنها تحرير الإعلام من سيطرة السلطة أو مراكز القوى السياسية والاقتصادية، والمحافظة في ذات الوقت على قيم المجتمع، فهي ترفض مركزية وسائل الإعلام ومن ثم تؤكد على حق المواطن في استخدام وسائل الاتصال، إذ تشجع على التفاعل المباشر بين مُرسِل الرسالة الإعلامية ومُستقبِلها وهو التفاعل المتدفق في كلا الاتجاهين، كما أنها تؤكد أن الإعلام في ظلها لن يتحكم به أحد بل سيخضع للسيطرة المباشرة للجمهور ليضع بنفسه معايير ضبطه والتي ستتحسن عبر تراكم الممارسة. وتتجسد الأفكار الأساسية لهذه النظرية وكما يطرحها كثيرون في المحاور التالية: - أن وسائل الإعلام لا يجب أن تخضع للسيطرة المركزية بل إن وسائل الإعلام صغيرة الحجم أفضل من وسائل الإعلام الكبيرة. - أن للفرد والجماعات والتكتلات حق استخدام وسائل الإعلام والتفاعل معها. - أن المواطن يجب أن يشارك في صناعة المحتوى الإعلامي، فالإعلام أهم من أن يُترك للإعلاميين أو لمالكي الوسائل الإعلامية. - أن وسائل الإعلام يتحتم أن تكون في خدمة الجماهير وليس في خدمة أهداف مالكيها وأيديولوجيتهم السياسية والفكرية.
إذن ووفقاً لهذه النظرية فالمجتمع بأفراده هو من سيضع ضوابط العملية الإعلامية ويحدد مخرجاتها من خلال المشاركة في صناعة المحتوى الإعلامي بشكل مباشر أو عبر النقابات والتكوينات المختلفة التي ينشئها لهذا الغرض بعيداً عن سيطرة الدولة، لذا فهي تفترض وجود مجتمع ديمقراطي تشاركي حر لا تسيطر عليه أية مراكز قوى أو أصحاب مصالح.
وهي بالطبع رؤية مثالية يصعب تحققها في الواقع المُتعيّن في ظل طبيعة الأنظمة القائمة والنظام الدولي الحالي، لكننا نعتقد أنها قابلة للتحقق مستقبلاً في ظل انتشار وسائل الإعلام التفاعلية بشكل كبير كنتيجة للتقدم التكنولوجي الهائل والتي من شأنها منح الفرصة للجمهور للمشاركة في صنع المحتوى الإعلامي بشكل واسع ومن ثم صياغة السياسة التحريرية والتحكم في ترتيب أولويات الموضوعات والقضايا المطروحة في وسائل الإعلام وفقاً لقناعاته الذاتية ودون تدخل من أحد.