تكررت كثيرا فكرة أن الأغلبية البرلمانية لا يجب أن تحسم أو تسيطر علي عملية وضع الدستور، وهي فكرة صحيحة، من حيث إن حزب الأغلبية ليس له وضع دستور يعبر عن رؤيته الخاصة، وكأن الدستور سوف يتغير كلما تغيرت الأغلبية البرلمانية. ولكن هذه المقولة تجاهلت عدة حقائق مهمة، الحقيقة الأولي أن الدستور ليس برنامجا سياسيا، ولا يمثل منهجًا سياسيا متغيرًا، بل يمثل القواعد والمبادئ الأساسية للنظام السياسي. والحقيقة الثانية المهمة، أن الدستور يحسمه في الواقع تيار الأغلبية في المجتمع، وليس حزب الأغلبية، ولكن تيار الأغلبية هذا، مثل نفسه من خلال أحزاب الأغلبية، أي أحزاب الكتل الرئيسة في البرلمان. ففي المجتمع المصري كغيره، تيار أساسي، يمثل الرؤية المجتمعية السياسية السائدة لدي أغلبية المجتمع، والتي تمثل التوجهات العامة والقواعد والمبادئ العامة السائدة لدي أغلب المجتمع، وتلك الرؤية السائدة، هي التي تشكل هوية المجتمع، وتشكل المرجعية الثقافية والحضارية له. وكل مجتمع بداخله تنوع، وهذا التنوع يتمثل في وجود عدة تيارات مجتمعية وسياسية، أي عدة تكوينات ثقافية، ولكن أحد تلك التكوينات يكون له الغلبة. والمجتمع المبني علي أسس سليمة تضمن الحرية والمساواة، هو المجتمع الذي تتشكل هويته من هوية تيار الأغلبية، ويوفر الحرية والعدالة والمساواة لكل التيارات. فالنظام العام يعبر عن تيار الأغلبية، أي التيار السائد، ولكن الحقوق والواجبات تتساوي لدي كل المنتمين للمجتمع وتياراته المختلفة. وعندما نتناول التيارات المجتمعية السياسية في المجتمع، والتي تشكل انتماءاته الثقافية المختلفة، لا نتكلم عن الأحزاب السياسية، بل نتكلم عن التيارات الأساسية المشكلة للمجتمع، والتي تأتي الأحزاب لتعبر عنها، وكل حزب يفترض أنه يعبر عن تيار معين، وعندما يخوض الانتخابات يتبين للمراقب إذا كان هذا الحزب يعبر عن مجمل هذا التيار أو جزء منه، أو لا يعبر عنه. لأن كل تكوين مجتمعي ثقافي في المجتمع يختار الحزب الذي يعبر عنه، والأحزاب لا تعبر عن أي تيار بصورة حصرية، بل تعبر عن جزء منه. لذا أفرزت الانتخابات البرلمانية في مصر، أكثر من حزب إسلامي مثل التيار الإسلامي في المجتمع بفصائله المختلفة، وأكثر من حزب ليبرالي مثل التيار الليبرالي في المجتمع بفصائله المختلفة. لذا فالحقيقة الاجتماعية الثقافية الأساسية، تتمثل في التيارات المعبرة عن تكوينات المجتمع الثقافية السياسية، أما الأحزاب فهي تعبر عن تلك التكوينات بصورة تتغير من مرحلة إلي أخري. مما يعني أن الأحزاب الممثلة في البرلمان، تعبر عن تيارات المجتمع المختلفة، وهي التيارات التي تعبر عن التكوينات الثقافية السياسية، وعن التشكلات المجتمعية الحضارية بمختلف صورها. فكل مجتمع يقسم علي أساس مجتمعي سياسي ثقافي حضاري، وهذا التقسيم يمثل الاتجاهات الرئيسة في المجتمع، والتي تشكل الرؤي والخيارات والتفضيلات الاجتماعية السياسية، أي تشكل مكونات الرأي العام. والناظر إلي نتائج الانتخابات البرلمانية، يجد أنها عبرت عن كل مكونات المجتمع وتياراته، وأصبحت تلك التيارات ممثلة بالفعل في البرلمان، من خلال الأحزاب التي نجحت في تمثيل تلك التيارات الأساسية الموجودة في المجتمع. لهذا فكل حزب في البرلمان، لا يمثل نفسه في عملية وضع الدستور، لأن تمثيله للتيار الذي اختاره متغير، ولكنه يمثل التيار الذي اختاره أو الفصيل الذي اختاره من المجتمع، وأصبح عليه مسئولية تمثيل هذا الفصيل أو التيار في اللجنة التأسيسية، والتعبير عن اختيارات هذا التيار، وليس عن اختياراته الحزبية الخاصة، لأنه أصبح وكيلاً عن هذا التيار أو الفصيل في وضع الدستور. ومن خلال تعبير كل حزب عن الكتل المجتمعية التي اختارته في الانتخابات، يتم تمثيل المجتمع بمختلف تياراته الأساسية، والمعبرة عن تكويناته المجتمعية الثقافية المختلفة. وبهذا نتصور أن الأغلبية و الكتل الرئيسة في البرلمان، تعبر عن كتل مجتمعية أساسية، وبأوزانها النسبية ذاتها، وعليها حسم عملية وضع الدستور من خلال تمثيلها للتيارات أو الكتل التي اختارتها، وليس من خلال تمثيلها للأحزاب التي تنتمي لها.