ماذا يحدث في مصر؟ سؤال رددته الملايين مساء الأربعاء الماضي بعد أن شاهدنا بأعيننا علي شاشات الفضائيات مأساة راح ضحيتها شباب في عمر الزهور، المشهد الحزين أدمي القلوب وأبكي العيون وعقد الألسنة، فما الذي يمكن أن يقال في حدث أصبح متكررًا، ويكاد يكون جزءًا من حياتنا اليومية، الانفلات الأمني أصبح ظاهرة لا يستهان بها.. والأيدي الخفية التي تعبث بأمن الوطن مازالت تلعب دورها باقتدار دون أن يجرؤ أحد علي كشف النقاب عن مؤامراتها التي تستهدف ترويع الآمنين، أمهات وزوجات وأبناء فقدوا حبات القلوب، ولو كان الفقد في سبيل الوطن لهان الأمر، ولكنه كان بفعل أيد غادرة مأجورة لاتريد لمصر الخير، ولا تستسيغ فكرة التحول الديمقراطي، ولا يهدأ لها بال إلا إذا زعزعت الاستقرار وأذاقت المصريين صنوف العنف. الفوضي الآن طالت كثيرًا من القطاعات في المجتمع، لم تعد للقانون صفة الردع فانتهزها البعض إما فرصة للتجاوز وإما لارتكاب الجرائم، الإضرابات والاعتصامات، وقطع الطرق والسكك الحديدية لتنفيذ المطالب الفئوية أصبحت سمة، سرقة السيارات والبنوك والبلطجة أصبحت ظاهرة، الأحداث الدامية التي شهدتها شوارع محمد محمود ومجلس الوزراء وماسبيرو ووزارة الداخلية والتي راح ضحيتها المئات باتت مشهدًا كتب علي المصريين تجرع عذابه، الموت الذي أصبح بالمجان وأرواح الشهداء التي سالت دماؤهم بلا ذنب ارتكبوه، كلها مشاهد مفجعة ومفزعة نخشي أن نعتادها بحكم تكرارها. القانون في إجازة والعلاقة بين الشرطة والشعب سادها عدم الثقة، الأمر الذي أفسح المجال أمام العابثين للتلاعب بوطن آمن، وفتح الباب علي مصراعيه لمتآمرين من الداخل والخارج للعب به كما يحلو لهم، حتي الآن لم تكشف لجان تقصي الحقائق التي شكلت في كل تلك الأحداث عن سبب منطقي ومعلوم أدي لوقوع الكارثة، الحديث عن الطرف الثالث أو اللهو الخفي كما اصطلح عليه المصريون في الآونة الأخيرة هو العنوان الرئيس لكل تلك التحقيقات، لا أحد يعلم حتي الآن من يدبر تلك الأحداث، وفي كل مرة تعلو الأصوات المطالبة بالقصاص من المتسببين ثم شيئًا فشيئًا تخفت إلي أن ينتهي الأمر دون جزاء عادل، وتبقي الأسر المكلومة بفقد أبنائها أسيرة النسيان والتجاهل دون أن يشعر بعذاباتها أحد. في الذكري الأولي لاحتفالات ثورة 25 يناير تم إلغاء العمل بقانون الطوارئ إلا في حالات البلطجة.. استبشرنا خيرًا بطي صفحة سوداء امتدت طيلة ثلاثين عامًا، وقلنا: أخيرًا سننعم بسيادة القوانين الطبيعية، لم تعد هناك إجراءات تعسفية تمس الحقوق الإنسانية للمواطن، لم نهنأ بذلك سوي أيام معدودة، وما لبثوا أن عادوا ليذكرونا من جديد بأنهم موجودون، ولعل المصادفة الغريبة أن تأتي ذكري موقعة الجمل الشهيرة مواكبة لحادثة مؤسفة أخري شهدته مدينة بورسعيد، وراح ضحيتها 74 مشجعًا وأصيب المئات علي خلفية مباراة كرة قدم، والمصيبة الأكبر في هذا الحدث أنها غرست بذور الفتنة بين أبناء الوطن، وهذه المرة ليست فتنة طائفية ولكنها فتنة سببها التعصب الأعمي واستغلها المحرضون لإحداث الوقيعة بين مشجعي النادي الأهلي ومحافظة ظللنا علي مر التاريخ نتغني ببسالتها في مقاومة كل محتل والذود عن تراب الوطن بدماء أبنائها. غياب الردع هل هناك علاقة مطردة بين السير في طريق الاستقرار والأحداث المفجعة؟ بالتأكيد هناك علاقة فرموز النظام السابق الذين لم تتم محاكمتهم حتي الآن بشكل حازم وفوري وظفوا منتفعيهم لتهديد الأمن والأمان، وكلما حدث تطور ما في طريق التحول المؤسسي والديمقراطي أعقبته مباشرة أحداث تزعزع استقرار المواطن وتصيبه في مقتل.. الموقف أصبح ينذر بعواقب وخيمة والأحداث تتطور وتتداعي ولا بد من الحزم في تنفيذ القوانين حتي نتدارك حالة الفوضي التي باتت تهدد بالكثير من العواقب الوخيمة. في تحليله للأحداث التي سيطرت علي الشارع المصري في الآونة الأخيرة وطغت فيها الفوضي علي القانون يري الدكتور إكرام بدر الدين رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن خطورة ما يتم الآن ليس في غياب القانون بمعناه الحرفي ولكن في غياب عنصر الردع، وفي أحداث بورسعيد إذا طبق القانون وتم اعتقال كل من بحوزته سلاح أبيض غير مرخص، لتم ردع كل من تسول له نفسه ارتكاب جرائم في حق الأبرياء، وهذا الردع لن يتحقق إلا بتطبيق القانون بحزم. ويضيف: نريد أن نربط بين الخلل في تنفيذ القوانين وما يحدث من تداعيات وتطورات علي المستوي السياسي في فترة من الفترات، حيث كان التخوف من قيام الأمن بدوره ضد المخالفين بحجة إعادة الوئام بين الأمن والمواطنين، وهذا منطق غير صحيح فالقانون يجب أن ينفذ في كل الأحوال، لأن عدم تنفيذه يؤدي إلي تداعيات خطيرة، ولا يمكن تصديق فرضية أن كل ما نشهده من أحداث من قبيل المصادفة، فأحداث بورسعيد حدثت في ذكري موقعة الجمل وبعد أسبوع واحد من بدء جلسات مجلس الشعب المنتخب، ولأول مرة يحدث شغب من مشجعي الفريق المنتصر، الأمر الذي يؤكد وجود مؤامرة مدبرة ومفتعلة ومنظمة من أطراف لها مصلحة في إعاقة التطور الديمقراطي وبالتالي في التأثير علي استقرار الوضع السياسي والاقتصادي، ولذلك فان تطبيق القانون يدحض ما يحاك من مؤامرات داخلية وخارجية. ويشير بدر الدين إلي أنه حذر مرارًا وتكرارًا من ثلاثة محاذير أولها: الوقيعة بين الجيش والشعب وثانيها الوقيعة بين الشعب والداخلية وثالثها الوقيعة بين الشعب والشعب، وللأسف فقد حدثت الوقيعة علي كل المستويات، وبين فترة وأخري تتصاعد الأصوات التي تذكي هذه النيران، وإن استمر ذلك سيؤدي إلي إسقاط الدولة وليس إسقاط النظام، ولابد أن نأخذ عبرة من تجارب دول أخري.. فالسودان جري تقسيمه علي سبيل المثال، ويجب علي كل الأطراف أن تغلب المصلحة العليا للوطن علي مصلحة الحزب والفصيل السياسي، لأن الدولة إذا سقطت سيكون الكل خاسرًا. ويؤكد بدر الدين أن استمرار عمليات سرقة البنوك وشركات الصرافة تغري بالمزيد إذا لم يتم وضع حد لها والقبض علي مرتكبيها ومعاقبتهم فورًا، كما أن المظاهرات وقطع الطرق الرئيسية والسكك الحديدية وخطف السياح، كلها أمور تصيب الاقتصاد في مقتل وتهدد الشرايين المغذية للاقتصاد بالانسداد، وعليه يجب علي الجميع من تيارات وقوي سياسية التعقل وتدارس الأمور بموضوعية بعيدًا عن المصالح الشخصية، وعلي الجانب الآخر يجب أن تكون هناك شفافية في تنفيذ القوانين والإجراءات، فالمجلس التشريعي الذي انتخبه الشعب يجب أن يعبر عن آمالهم ويلبي طموحاتهم، وأن يتواجد بشكل فعال ويتجنب فكرة حدوث فراغ مؤسسي ويحرص علي استكمال مسيرة التحول الديمقراطي وإزالة العقبات في طريق تسليم السلطة إلي رئيس مدني وفقًا للجدول الزمني الذي تم الاتفاق عليه. المرحلة الانتقالية وتحتاج دولة القانون من وجهة نظر الدكتور حسام الشاذلي 'الخبير في إدارة التغيير والتخطيط الاستراتيجي'، لمنظومة ديمقراطية ثابتة تكون سيادة القانون أحد أركانها، وفي مصر ونحن في بداية مرحلة التغيير الديمقراطي من الطبيعي أن تحدث حالة من عدم الاستقرار والفوضي وهذه أهم سمات ما بعد الثورات، وهو ما يسمي بتصارع قوي الماضي الفاسدة الرافضة للتغيير مع القوي الثورية التي تسعي للقضاء علي رموز النظام السابق، غير أن آليات التغيير ومدي النجاح في إدارة المرحلة الانتقالية، هو الذي يحدد عادة إذا كنا سننتقل إلي دولة سيادة القانون من عدمه. ويقول الشاذلي إن ما نشهده من أحداث وملامح عدم الاستقرار بعد الثورة يؤكد أن هناك شكًا واضحًا في إدارة المرحلة الانتقالية، ويبدو ذلك في عدم الوصول إلي حلول علي المستويات الاقتصادية والأمنية، وتعدد الحكومات التي تغيرت بعد الثورة خلال مدة زمنية قصيرة، ولكن يبقي الأمل في الجهة الشرعية الوحيدة التي تشكلت حتي الآن وهي مجلس الشعب، والذي يكمن الاختبار الحقيقي في التحول الديمقراطي في قدرة هذا البرلمان علي التعامل مع هذه المتغيرات وإمكانية استكمال الثورة لأهدافها، كما أن شكل البرلمان وهويته الجديدة يبشران بالأمل، فهناك 50 عضوًا منه لا يملكون سيارة خاصة ويستخدمون وسائل المواصلات كباقي المواطنين، وبالتالي فهم جاءوا من بين الصفوف ليمثلوا الشعب. ويضيف: إن مشكلة مصر الحقيقية ليست في غياب دولة القانون، ولكنها مشكلة سياسية بحتة ترجع إلي وجود أياد خفية لا تريد لهذا المسار الديمقراطي الحديث أن يكتمل، والمشكلة أنه لم يتم التعامل مع المشكلات الأمنية وإيجاد حلول جذرية لها، وكل الحلول التي طرحت كانت بمثابة عملية ترقيع غير مكتملة، وهذه المشكلة الأمنية بالذات تعود في الأساس لمشكلة سياسية بين شعب فقد الثقة في جهاز الأمن واعتبره نظامًا فاسدًا أو جزء من النظام الفاسد، وجهاز أمني فقد القدرة علي التعامل مع الشارع والسيطرة عليه، فكان من المفترض أن تتم إعادة هيكلة وزارة الداخلية بشكل كامل، وفي هذا الوقت كان الشعب سيتعامل مع الجهاز الجديد باعتباره شرطة الدولة، هذا بالإضافة إلي عدم وجود محاكمات عاجلة وسريعة لقمم النظام الفاسد الذين استخدموا الأموال وهم داخل السجون في إحداث حالة من عدم الاستقرار في البلاد، لأن نجاح الثورات مرتبط دائما بالتخلص من رموزه بشكل عاجل. ويشير إلي أن وجود منظمات المجتمع المدني خاصة التي تواجدت بطريقة غير رسمية كانت تستخدم باعتبارها واجهات لإدارة عمليات تدور حولها تساؤلات كثيرة أدت إلي اختراق الأمن الوطني، كما أن غياب تمثيل الشباب بشكل حقيقي في البرلمان والأحزاب، وسيطرة صوت رأس المال والجماعات المنظمة علي الانتخابات البرلمانية أدت إلي حالة من الاحتقان وغياب سيادة المنظومة الديمقراطية، بالإضافة إلي عدم النظر بجدية لقضايا تعويضات أسر الشهداء والمصابين، وتفاقم مشكلة العشوائيات كلها عوامل زادت من الاضطرابات. ويشير إلي أن الحل للخروج من المأزق يكمن في إدارة المرحلة الحالية من قبل البرلمان وسحب الثقة من الحكومة الحالية، وأن يتم توجيه استجواب عاجل لوزير العدل من أجل الإسراع بمحاكمة الفاسدين من رموز النظام السابق، وآخر إلي رئيس جهاز المخابرات يسأل فيه عن عمليات الاختراق الأمني الواضح، ويجب أيضًا أن يقف الشعب متصديًا لحماية الثورة كما فعل من قبل من خلال تفعيل اللجان الشعبية مرة أخري حتي نستطيع العبور بمصر إلي بر الآمان.